كان ولا يزال التراث العماني محل اهتمام وغرة بيضاء على جبين النهضة المباركة منذ بزوغ فجرها، فقد حظي التراث والموروث الشعبي بعناية بالغة من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ نظرًا لما يمثله هذا الموروث الحضاري من هوية وثقافة وحضارة موغلة في أعماق التاريخ. فكلمات جلالته ـ أيده الله ـ لا تزال متقدة وتتوقد بها الذاكرة الجمعية العمانية التي أطلقها تأكيدًا على معنى التراث والموروث في تاريخ الأمم والشعوب، وذلك في كلمته السامية التي وجهها إلى الدورة الثالثة والثلاثين للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في الثالث من أكتوبر عام 2005م حيث قال: "إننا نولي تراثنا الثقافي بمختلف أشكاله ومضامينه المادية أهمية خاصة ونعنى به عناية متميزة لما له من أهمية ودور ملموس في النهوض بالحياة الفكرية والفنية والإبداع والابتكار. ونبدي اعتزازنا بوجود مجموعة من المواقع الثقافية والطبيعية العمانية على لائحة التراث العالمي والتي تمثل دليلًا واضحًا على مساهمة العمانيين عبر العصور المختلفة في بناء الحضارات وتواصلها وتفاعلها مع الثقافات الأخرى".
وما من شك أن الصناعات الحرفية في بلادنا تعد أحد الرسل التي حملت بكل أمانة إلى العالم الحضارة العمانية ومعالم حياة الإنسان العماني وتفاعله مع الحياة وعلى اختلاف مراحل التاريخ، ذلك لأن هذه الصناعات الحرفية وإن تكن قد تحولت في معظمها إلى تراث يعرض في المتاحف، إلا أنها كانت في الحقيقة محور حياة الإنسان العماني ومحرك اقتصاده واقتصاد الدولة أيضًا في تلك العهود السابقة، وهي تحمل عبق التاريخ العماني وملامح الصناع المهرة الذين كانوا يجيدون تصنيع هذه الحرفيات للاستعانة بها في البيت وموقع العمل، سواء كان مزرعة أو مصنعًا.
وعلى الرغم من تطور الحياة الحديثة وتوجه الناس إلى اقتناء الأدوات العصرية الحديثة مواكبة لركب التطور والتمدن، وبالتالي تنحي الأدوات والوسائل التراثية عن كونها وسائل حياة إلى معالم تراثية، فإن الهيئة العامة للصناعات الحرفية تنهض بواجبها تجاه هذا التراث ليس فقط حفاظًا عليه من الاندثار ومن غارات مظاهر العصر والتمدن والتحضر والترف، وصونًا له من الهجمات المتوالية للعولمة، وعرضها في المتاحف، وإنما تعمل بكل جد وتفانٍ لتطويرها وإضافة مبتكرات محلية عليها لتقوم بدور اقتصادي أيضًا من خلال الترويج السياحي أو تسويقها كمنتج عماني خالص وجذاب يجسد الدور الحضاري لمجتمعنا العماني، بل إن الخطط تسير في مراحلها المرسومة بإعادة المهن الحرفية من منطلق أنها مصدر دخل ودعم للاقتصاد، وتشجيع الحرفيين بالدعم اللازم وشمولهم بالتأمينات الاجتماعية.
ونظرًا لإدراك قيمة هذا التراث الحرفي في حياة العماني وإمكانية الاستمرار في تطويره، أولى جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ جل اهتمامه لهذا القطاع الحيوي الأكثر رسوخًا في تاريخنا الممتد، ووفر الدعم اللازم للارتقاء بالصناعات الحرفية العمانية لتصبح مصدر دخل للفرد ودعمًا للاقتصاد الوطني في نفس الوقت، إلى جانب قيمتها الرمزية الكبيرة، بالنظر إلى توافر الخامات الأساسية محليًّا لهذه الصناعات وكذلك توارث مهارات إنتاجها من جيل إلى جيل. ويعد تخصيص عام للتراث وإنشاء هيئة خاصة تعنى بالصناعات الحرفية وتخصيص جائزة تحمل اسم جلالة السلطان وإشهار "كلية الأجيال لعلوم الصناعات الحرفية والمهن التقليدية" شواهد تاريخية دالة على عمق الاهتمام بالتراث العماني. كما تعد استضافة السلطنة للفعاليات الخاصة بالتراث والصناعات الحرفية دليلًا إضافيًّا، حيث اختتمت أمس أعمال الاجتماع الثالث لمجلس الحرف العالمي لإقليم آسيا والمحيط الهادي، والذي نظمته الهيئة العامة للصناعات الحرفية بالتعاون مع مجلس الحرف العالمي لإقليم آسيا والمحيط الهادي، والذي هدف إلى تعزيز التعاون المشترك بين دول الأعضاء فيما يتعلق بتجويد العمل الحرفي والنهوض بالقطاعات الحرفية إضافة إلى متابعة المبادرات الرامية إلى تطوير أداء المجلس العالمي للحرف وزيادة فعالية برامجه التنموية. وشكل الاجتماع فرصة طيبة للتعرف على الكنوز التراثية والحرفية للسلطنة، وكذلك الاستفادة من تجارب الدول المشاركة في الحفاظ على التراث وترويجه وصيانته وتجديده وتطويره باعتبار الصناعات الحرفية هوية وثقافة وتعزز في الوقت ذاته الربحية وتؤمن مصدرًا للدخل.