[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. لقد تنبه إلى معضلة التاريخ العماني الإمام السالمي رحمه الله فيبادر وهو المنشغل في زمنه بأكثر من مشروع سياسي وتعليمي وبالتأليف في الفقه هذا فضلا عن أنه كان مرجعا للفتوى، فشرع في تأليف كتابه "تحفة الأعيان في تاريخ أهل عمان" والذي أصبح المرجع الوحيد في التاريخ العماني، وعليه اعتمد معظم الباحثين والمؤرخين والكتاب الذين انشغلوا بهذا الجانب بعده، ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما هو التاريخ ؟ أي من حيث إنه علم وتخصص ونقل لأحداث وحركة وسمات الحياة في الماضي، هل هو مجرد توثيق لتسلسل الأحداث المتعاقبة على مر الأيام والأعوام، ورصد زمني يؤرخ لوقت وقوعها ومكان حدوثها ؟ لو سلمنا بهذا المعنى المبسط للكتابة التاريخية لكان من اليسير على كل إنسان سل قلما أن يوثق لتاريخ قطر من الأقطار وأن يرصد الأحداث التاريخية التي توالت على مجتمع من المجتمعات فيسجلها بقلمه وينقلها من إطارها المحكي إلى إطارها الكتابي المقروء، أي في مؤلف يسميه تاريخ تلك الأمة أو ذلك القطر، فما عليه سوى أن يبحث في تسلسل الأحداث من المراجع والمصادر التاريخية وأن يسجل ما اختزنته صفحاتها وينقل ما حفظته ذاكرة الآخرين من كبار السن والحفظة والمختصين والمهتمين بالتاريخ عموما ليقدم لنا سفرا يروي ما حدث في عام كذا من حروب وصراعات داخلية وخارجية، ووفيات وولادات لشخصيات بارزة، وما صدر من مؤلفات مهمة وما ظهر من مذاهب وعقائد متعددة سياسية واجتماعية وعقدية ... متنقلا بين الأعوام والأزمان على نفس القدر والمنوال فنراه إنجازا عظيما وعملا مميزا لتاريخ بلد أو منطقة أو أمة وقد تبرزه وسائل الإعلام في صفحاتها الأولى، ولو أمعنا النظر قليلا وتوقفنا إزاء ما تضمنه من معلومات وقارناه بكتب التاريخ التي تؤرخ للمجتمعات والشعوب الأخرى لأقررنا بأنه لا يضيف جديدا إلى هذا المجال الواسع والخصب بما يحمله من دروس وتجارب وتبدلات في شكل الحياة وفي أنماط البشر بشكل عام، فالتاريخ وكما يصفه ابن خلدون في مقدمته (فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية)، إنه سجل الماضي وعبقه وأصل الحاضر ومصدره . لقد سار معظم مؤرخينا القدامى على ذات الطريقة التقليدية والسهلة في كتابة التاريخ، أي نقل الأحداث بحسب تسلسلها الزماني والمكانـي، فظل تاريخنا مجرد توثيق للأحداث ونقل لأخبار وقصص الماضي مع خلو واضح من الرصد والتحليل ومن استخلاص الدروس والمقارنات وإسقاط أحداث الماضي على الحاضر من أجل تفسير مجريات وأحداث هذا الحاضر واستشراف مجريات ومستجدات المستقبل فلم نوظف فوائده الجمة وغاياته الشريفة كما قال ابن خلدون، فالتاريخ في تعاريف بعض مؤرخي الإسلام عبارة عن خبر أو أخبار فالمسعودي يعرف التاريخ بأنه (علم من الأخبار) وابن خلدون يعرفه بأنه (ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل)، ولذلك تتوالى الاتهامات الموجهة إلى المؤرخين العرب بشكل عام بـ (عدم سعيهم إلى التعليل بل اكتفوا بالسرد ..)، وقد يعذر أولئك المؤرخون لأسباب عدة:
منها أن علم التاريخ لم يكن يحظى بالأولوية مقارنة بعلوم الشريعة والفقه واللغة والأدب والفلسفة والطب التي اهتم بها وانصرف إليها معظم علماء تلك المرحلة التاريخية، ولأن المؤرخ لم يكن ينحصر تخصصه في كتابة التاريخ فقط بل يتعداه إلى علوم أخرى يتعلمها ويكتب ويبحث فيها، ولأن علم التاريخ مازال في بدايات مراحله الأولى، فالعرب لم يعتادوا قبل صدر الإسلام على تسجيل وكتابة ونقل وتوثيق تاريخهم، أما في الحاضر وبرغم تطور الكتابة التاريخية وتعدد وسائلها وأدواتها ومناهجها واختلاف أهدافها وبرغم الاطلاع الواسع على المناهج المستخدمة وعلى تاريخ الشعوب والأمم الأخرى المكتوب ومميزاته إلا أن معظم المؤرخين في بلادنا ما زالوا يمارسون الكتابة على ذات الآلية والتعريفات القديمة فاتسمت الكتب اللاحقة بالنقل ممن سبقها وبالتكرار واستخدام نفس المنهج في الكتابة أي تسجيل السنة وما جرى فيها من أحداث، وإن ظهرت بعض الاختلافات فلا تتعدى الشكل الخارجي. تأسيسا على ذلك فإن العمانيين وللأسف الشديد لم يعطوا تاريخهم تلك العناية كما يجب ولم يعيروه تلك المكانة التي ينبغي أن يتبوأها حاله كحال العلوم الأخرى التي قدمها العمانيون للمكتبة فقهية ولغوية وأدبية خاصة الشعرية منها والطبية والفلكية وغيرها، ويعزى ذلك إلى ترفع العمانيين وتجاوزهم عن الحديث عن أنفسهم وعن إنجازاتهم ومكتسباتهم وانشغلوا عن ذلك باكتساب العلوم ونشر الإسلام والدفاع عن الوطن من أية تبعية وتحسين أوضاعهم التجارية والمعيشية، كما أن الصراعات الداخلية التي شهدتها عمان في مراحل تاريخية استنزفت وقت العلماء والمؤهلين لكتابة التاريخ ودمرت الكثير من المخطوطات والأعمال التي تشكل مصدرا مهما للتاريخ، وكانت نظرة العلماء والشعراء والأئمة والشخصيات الاجتماعية والسياسية إلى إنجازاتهم وأعمالهم العديدة نظرة متواضعة من منطلق تحررهم من قيود المباهاة والوهاجات والمظاهر التي تتعارض في نظرهم مع العديد من المبادئ والمثل الدينية والأخلاقية ومع مناقب الشخصية العمانية التي تطرقنا لها بالتفصيل في عناوين سابقة، هذا فضلا عن أن الأئمة والحكام في عمان لم يستخدموا العلماء ولم يمارسوا عليهم الضغوط ولم يغدقوا عليهم الأموال ويطوعوا امكاناتهم ليمجدوا سيرهم وتاريخهم ويرفعوا من شأنهم، أو تشويه تاريخ من يكنون لهم العداء أو ينافسوهم في الحكم أو لأهداف وغايات سياسية أي على غرار ما صنع الأمويون والعباسيون والأسر والدول التي تعاقبت على البلدان العربية والإسلامية، فكتبوا تاريخا يحتاج إلى المراجعة والبحث والتقييم وإعادة كتابته والاستفادة من التقنيات والاكتشافات والمصادر والآليات الحديثة في كتابة التاريخ، هذا جانب ومن جانب آخر فإن بعض الأعمال التاريخية التي ألفت تعرضت للتلف والاندثار نتيجة للنزاعات والحروب التي شهدتها البلاد وللحرق المتعمد من قبل من تمكنوا في مراحل معينة من السيطرة علـى البلاد أو بعض الجبابرة، وما تبقى من تلك الأعمال إما أنه كان مقتصرا ذكره على فترة قصيرة من المراحل التاريخية، أو أنه أرخ لشخصية من الشخصيات أو حادثة من الأحداث دونا عن غيرها، مما أورده كتاب (الثقافة الإسلامية) الصادر عن مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم تأكيدا على ذلك ما يلي: (لم يكن للعمانيين اهتمام كبير بكتابة التاريخ في العصور الإسلامية الأولي، وتركزت جهودهم منذ البداية على دراسة علوم الدين الإسلامي واللغة العربية، متأثرين بالمدارس الدينية واللغوية التي نشأت في الحجاز ... وجاء تركيز الجهد على هذه العلوم على حساب الاهتمام بكتابة التاريخ، فكل ما وصلنا من جهودهم في هذا المجال يكاد يقتصر على بعض السير والتراجم لأعلام وشخصيات تاريخية عمانية)، ويعزى أسباب ذلك كما أوردته مـادة الكتاب إلى : (اهتمام العمانيين أثناء حكم الأئمة بتدوين علوم الدين والفقه واللغة، لذلك فقد تركوا لنا تراثاً غزيراً في هذا المجال . اشتغالهم بإقامه العدل، وتأثير العلوم الدينية، وبيان ما لابد من بيانه للناس، أخذاً بالأهم، لذلك لا نجد لهم سيرة مجتمعة، ولا تاريخاً شاملاً . لم يكن حكم الإمامة مستمراً ومتصلاً في عمان ؛ فقد تخللته انقطاعات كثيرة، إما بسبب محاولة سيطرة القوى الخارجية (الأمويين، والعباسيين، والقرامطة)، وإما بسبب هيمنة حكام لم يرضَ بهم المؤرخون من طبقة العلماء. يضاف إلى هذين العاملين شح المعلومات التاريخية عن عمان في المصادر التاريخية الإسلامية غير العمانية، المتهمة في الواقع بالتقصير في تدوين الأحداث التاريخية التي جرت في عمان وتاريخها الحضاري، هذا التقصير الذي يصل إلى حد القطيعة، ويعجز أي مؤرخ موضوعي أن يجد له مسوغاً مقنعًا) . وأكد الدكتور رجب محمد عبد الحليم في كتابه (العمانيون والملاحة والتجارة ونشر الإسلام) على تقصير العمانيين و(قلة كتاباتهم التاريخية ..) حيث اهتموا ( بالتدوين في علوم الدين والفقه) .
ويمكن أن نقول بأن التاريخ العماني في أغلبه ومجمله شبه مفقود وغير موثق خاصة فيما يكشف عن جهود العمانيين في نشر الإسلام وفي الاسهام العلمي والحضاري وفي التجارة، وفي الهجرات من الخارج إلى الداخل والعكس وتاريخ بناء المدن والحواضر ودلالات الأسماء وأنساب القبائل وتراجم العلماء والشخصيات المهمة وأنماط الحياة وتطورها .. وبما يجيب عن عشرات الأسئلة ذات العلاقة بتلك المحاور وغيرها ويضع الجيل العماني أمام تاريخهم بما يحمله من أحداث ومواقف ومحطات مشرقة وأخرى تضعنا أمام مسئولياتنا في الحفاظ على هذا الوطن والدفاع عنه كما ضحى الآباء بأرواحهم وبأغلى الأثمان من أجل أن تظل عمان حرة أبية موحدة متماسكة، ولن يتحقق ذلك إلا بالوعي والحفاظ على القيم وعلى ثقافة التسامح وتعظيم مصالح الوطن والمجتمـع ... إن التاريخ العماني مبعثر بين شرق وغرب في المتاحف الغربية وعدد من الدول الآسيوية والإفريقية وكتابات الرحالة والساسة الغربيين وأرشفة الوثائق والمعالم الأثرية في عمان وخارجها .. وهي بحاجة إلى بحث ولملمة ودراسات وتقييم ومقارنات، ولا ننسى تلك الجهود المقدرة التي يبذلها باحثون وأكاديميون في جمع وترجمة تلك الوثائق والشهادات التي وجدت طريقها إلى المكتبة، ولكنها تظل جهودا فردية وإضافة لا تقوم مقام مشروع مؤسسي متكامل مدعوم بموازنة سخية وباحثين ومتخصصين في كتابة التاريخ والبحث عن مصادره المتعددة في الداخل العماني وفي الخارج، وإعداد موسوعة متكاملة عن التاريخ العماني الذي يحفل بأحداث كبيرة وإنجازات واسعة وتضحيات رائعة ومشاهد وصور تستحق الرصد والتوثيق وهو ما يأمله كل عماني تواق إلى معرفة تاريخه، وكل باحث ومطلع يسعى إلى الاطلاع على جهود العمانيين ومساهماتهم الحضارية .. لقد تنبه إلى معضلة التاريخ العماني الإمام السالمي رحمه الله فيبادر وهو المنشغل في زمنه بأكثر من مشروع سياسي وتعليمي وبالتأليف في الفقه هذا فضلا عن أنه كان مرجعا للفتوى، فشرع في تأليف كتابه "تحفة الأعيان في تاريخ أهل عمان" والذي أصبح المرجع الوحيد في التاريخ العماني، وعليه أعتمد معظم الباحثين والمؤرخين والكتاب الذين انشغلوا بهذا الجانب بعده، يقول نور الدين السالمي في مقدمة كتابه (التحفة)، مؤكدا على أهمية تدوين التاريخ وأثره على الإنسان درسا وعظة، وحرصا على تجنب الأخطاء والاستفادة في تجارب من مضى وسيرتهم، (أما بعد فإنه لا يخفى على عاقل أن علم التاريخ مما يعين على الاقتداء بالصالحين ويرشد إلى طريقة المتقين، لأنه فيه ذكر أخبار من مضى من صالح وطالح، فإذا سمع العاقل أخبار الصالحين اشتاقت نفسه إلى اقتفاء آثارهم، وإذا سمع أخبار الطالحين أشفقت نفسه أن يكون من جملتهم، فتراه بذلك يقتفي آثار من صلح، ويتجنب أحوال من طلح ...) . وبعد تطور مناهج البحث والكتابة ومنها كتابة التاريخ وتوثيقه والمبادرات الفردية بترجمة العديد من الوثائق الأجنبية وزيارة عدد من المتاحف والاطلاع على الكثير من الكتابات والأبحاث والدراسات التي صدرت من قبل عدد من المراكز والمؤسسات البحثية والأكاديمية بدأت تظهر إلى العلن آثار وجهود العمانيين وتاريخهم الحافل بالإنجازات وجهودهم في نشر الإسلام ونجاحاتهم البحرية وأنشطتهم التجارية وتأثيرهم الإيجابي في حواضر ومدن العالم القديم وما تميزوا به من خلق واحترام ورقي في الحوار وفي التعامل والقدرة على التأقلم مع الآخرين، وهي واحدة من المصادر التي ينبغي أن يعتمد عليها في كتابة التاريخ العماني كما أشرنا إلى ذلك. وقد ترك الأديب والشاعر والمؤرخ حميد بن محمد بن رزيق مخطوطتين كبيرتين تحتوي كل واحدة على ما يقارب الألف صفحة وهي أقرب إلى الموسوعات التاريخية وتمثلان بحق (درة المصادر التاريخية) وهما الصفحة القحطانية، والصحيفة العدنانية، يجري (تحقيقهما نفر من الباحثين) . إن (التاريخ لم ينته، بل تتدخل الإرادة البشرية، ومنها إرادة العمانيين، لتصنع بيدها، وعلى عينها أحداثا جديدة، بعد أن كاد الجميع يتصور بأن أمر التاريخ قد حسم، وأن ما عشناه دهرا سنعيشه إلى نهاية عمـرنا، وسيعيشه أبناؤنا وأحفادنا إلى يوم يبعثون، التاريخ لم يمت لأن الروح لم تمت، لم يمت لأن روح الإنسان العماني لم تمت، بل إنها تتشبث بإرادتها، وبقدرتها على صنع هذا التاريخ).
[email protected]