(فـقـالـوا ربـنا بـاعـد بـين أسـفارنا وظـلمـوا أنفـسهـم فجـعـلناهـم أحـاديث ومـزقـناهـم كل مـمـزق ..)

الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الكـتاب ولـم يجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى المبعـوث رحـمة للـعـالمين ، وسـراجـا للمهـتـدين وبـشـرا للمـؤمـنـين ونـذيـرا للـكافـرين وعـلى آله وأصحابه الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحسان إلى يـوم الـدين وبعـد :
فـلا زال الحـديث مـتـواصـلا عـن أهـل سـبأ، وكـم لـسـبأ مـن الآيات والعــبر والعـظـات لمـن كان له قـلب أو ألـق السـمع وهـو شـهـيـد، وحـين نـقـارن قـوله تعالى لـسبأ:
( آمـنين) وبـين قـوله تعالى عـن قـريـش:(الـذي أطـعـمهـم مـن جـوع وآمنهـم مـن خـوف )قـريـش ـ 4) ، نجـد أن الأمـن يـتـوفــر بالإطـعـام والأمـان من الخـوف ، وهـنا قال:(آمـنـين)، ولـم يـقـل مـن خـوف: لأن مـعـنى:
( آمنين) أي: الأمـن التام إذ لا جـوع ولا خـوف، آمنـين مـن الجـوع ، وآمـنين مـن الخـوف ،لأنه لم يـذكـر مع:(آمنين) متعـلـق.
قال الله تعالى:( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (سـبأ ـ 19).
تأمـل هـذا التعـنـت، وهـذا البطـر لنعـمـة الله ، حـيث لم يعـجـبهـم أن قـارب الله لهـم بـين القـرى، فـطـلـبـوا البـعـد بـين القـرى قال تعالى:(ربـنا باعـد بـين أسـفـارنا )، يعـني: افـصـل بـين هـذه الـقـرى بصحاري شـاسـعـة ، بحـيث لا يسـتطـيع السـفـر فـيها إلا الأغـنياء والـقـادرون الأقـوياء الـذين يملكـون المطـايا القـوية الـقادرة عـلى الحـمـل.
وذلك مـثـل قـول بني إسـرائيـل عـنـدما بطـروا نعـمـة الله بإنـزال المـن والسـلـوى عـليهـم دون بـذل مجهـود مـنـهـم ، فـقال تعالى:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ..)، فـكان عـقـابهـم ، قال تعالى:
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (البقـرة ـ 61).
إذن: نظـرتهـم في هـذه المسألة نظـرة اقـتصادية كلها جـشـع وطـمع، فهـم يـريـدون أن يحـرمـوا الفـقـراء وغـير الـقـادرين مـن السـفـر للتجـارة معـهـم، فـحـين تـتـقـارب القـرى وتكـثـر الاسـتراحـات عـلى طـول الطـريـق، فـلا يـكاد المسافـر يتجـاوز قـرية إلا ظـهـرت قـرية أخـرى مـن بـعـيـد،فـهـذا يـسهـل السـفـر عـلى الفـقـراء الـذين يـركـبـون الـدواب الضـعـيفة ، فـوسـائل النـقـل والامـتطـاء تخـتلـف باخـتلاف قـدرات الناس، فـواحـد يستـطـيع أن يسـافـر عـلى جـواد، وثـان يـسـتطـيع أن يـسافـر عـلى ناقـة ، وآخـر لا يسـتـطـيع أن يسـافـر إلا عـلى حـمـار وربمـا وجـد مـن يمـلك شـيئا مـن وسـائـل النقـل.
وقـرب المـسافات بـين القـرى يشـجـع الفـقـراء عـلى السـفـر إلى الشـام، لـذلك طـلـب أولـئـك الأقـوياء الجـشـعــون أن يـباعـد الله بـين تـلك القـرى فـهـو مـطـلـب جـشـع أناني، لـذلك قال الله تعالى:(وظـلمـوا أنفـسهـم )، نعـم ظـلمـوا أنفـسهـم، لأنهـم حـرمـوها مـن الـراحـة التي جـعـلها الله لهـم، وظـلمـوا أنفـسهـم لأنهـم أرادوا أن يحـتكـروا هـذه التجـارة ، وإلا يخـرج إليها غـيرهـم من الفـقـراء ،أو ظـلمـوا أنفـسهـم لأنهـم أثـبتـوا لها عـدم اكـتمال الإيمان، لأنه الا يـكـتـمـل إيـمان المـرء حـتى يحـب لأخـيه مـا يحـب لـنـفسه، وأولـئـك يحـبـون أن يسـتأثـروا بالنعـمة لأنفـسهـم ويحـرمـوا منها غـيرهـم.
ولكـن كـيف تـكـون المـباعـدة التي طـلبـوها في طـريـق تجـارتهـم، عـرفـنا مـن عـلم الهـنـدسة أن الخـط المستقـيم هـو أقـرب مسـافـة بـين نقـطـتين، فاسـتـقـامـة الطـريـق تيسر الحـركة فـيه، وتـقـلل الـوقـت والمجـهـود، والمـباعــدة لا تـكـون إلا بتهـيـم بعـض تـلك القـرى لـتبـعـد المسافـة بينها أو بـان يـلـتـوي الطـريـق، أو يـدور هـنا وهـناك.
فـكانت نتـيجـة هـذا الجـشـع والبطـر قـوله تعالى:
( فجـعـلناهـم أحـاديث ومـزقـناهـم كل مـمـزق) (سـبأ ـ 19)، أي أحـدوثة يتحـدث بها الناس أو (قـصـة) تحـكى، كـما لـو وقــع مجـرم في أيـــدي رجـال الشـرطـة، فـجـعـلـوه عـبرة لـغــيره حـتى صـار الناس يحـكيها بعـضهـم لبـعـض ، كـذلك مـن وقـع لأهـل سـبأ جـعـلهـم الله عـبرة لـغـيرهـم حـتى صـارت سـيرتهـم مـثـلا يضـرب، يـقـولـون في المـثـل العـربي الـدال عـلى التـفـرق، ( تفـرقـوا أيـدي سـبأ) ، يعـني تفـرقـوا بـعـد اجـتماع كـما تـفـرق أهـل سـبـأ.
ومعـنى قـوله تعالى:(ومـزقـناهـم كل ممـزق)، أي التمـزيـق والتفـريـق بكل أنـواعـه وطـرقه ، بحـيث يـتـناول التمـزيـق كل الأجـزاء مهـما صـغـرت :(إن في ذلك لآيات)، يعـني فـيها عـبر وعـظـات يسـتفـيـد منها العـاقـل في حـياته اليـومـية.
قال تعالى:( لـكل صـبار شـكـور)، صـبار وشـكـور مـن صـيغ المـبالغـة ، صـبار مـبالغـة مـن الصـبر، لأن هـؤلاء ظـلمـوا الفـقـراء واضطهـدوهـم وأرادوا أن يـقـطـعـوا عـنهـم سـبيـل النعـمة، وأن يسـتأثـروا به لأنفـسهـم، وقـد تـكـرر منهم ذلك، ولم يـقـل الله لـكل صـابر، لأنهـم تحـملـوا مـن الأذى مـايحـتاج إلى صـبـر كـثـير.
وسـبـق أن قـلنا: لـو عـلـم الظـالـم ما أعـده الله للمـظـلـوم لـظـن عـليه بالظـلـم ، ويكـفي المظـلـوم أن الله تعالى سـيـكـون في جـانبه يـوم القـيامة، يأخـذ لـه حـقـه ممـن ظـلمه.
ومـن الغـباء أن الـظـالم حـين يـتـنـبه إلى ظـلمه وتهـدأ شـرته وعـصبيته يـريـد أن يكـفـر عـن ظـلمه، فـيسـعى فـاتحـا أبـواب الخـير ، ويبني مسـجـدا مـثلا أو مـدرسـة 00الخ ، يظـن أن لـه ثـوابها،والحـقـيقـة أن الـثـواب لـمـن ظـلمهـم وأخـذ أمـوالهـم ، لا لـه لأن الله تعالى يـقـول:(وكـفى بنـا حـاسـبين) (الأنبياء ـ 47) يحـاسـبه عـلى ظـلمه.
وقال أيـضا: ( شـكـور ) يعـني: كـثـير الشـكـر لله أن أقـدره عـلى أن يـصبر، لـذلك قـالـوا ما صـبرت وإنمـا صـبرك الله يعـني أعـانـك عـلى الصـبر حـتى تـنـال أجـر الصابـرين.
قال الله تعالى:(ولـقـد صـدق عـليهـم إبليـس ظـنـه فاتبـعـوه إلا فــريـقـا مـن المـؤمنـين) (سـبأ ـ 20)، ومـعـنى:(ولـقد) تـوكـيـد بالـلام مـرة وبـقـد مـرة أخـرى: (صـدق ) حـقـق وأكـد: (عـليهـم) عـلى أهـل سـبأ وأمثـالهـم مـمن اتبـعــوه : (إبلـيس ظـنه) مـا ظـن إبليس؟ ظـنه أن شـهـوات البشـر ســتـمكـنه مـن إغـوائهـم ، ونحـن نـعـلم قـصتـه لأبـيـنا آدم ، لما أمـره الله بالسـجـود لأبـينا لآدم عـليه السـلام فأبى وقال مهـددا :
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ )
(الأعـراف ـ 16)، وقال تعالى:(فـبعـزتـك لأغـوينـهـم أجـمعـين) (ص ـ 82)، وكان فـيه شيء مـن الحـياء قال تعالى: (إلا عـبـادك منهـم المخـلصين) (الحجـر ـ 40).
فـظـن إبليس أنه قـال: لـقـد أغـويـت أباهـم آدم وقـدرت عـليه حـين أغـويـتـه، فأكل من الشـجـرة مـع أنه كان أول الخـلـق وأقـواهـم، وقـد كـلـفـه الله تعالى مـباشـرة وكلـفـه بشيء واحـد، وهـو أن يأكل مـن كل ثـمار الجـنة عــدا شـجـرة واحـدة ، ومـع ذلك قـدرت عـليه إذن: فأنا أقـدر عـلى ذريته لأنهـم أقــل قـوة مـنه، وقـد كلفهـم الله تـكلـيـفـا غـير مـباشـر، وكـلـفهـم بــتكـالـيف متعـــددة ، فأنا أقــدر عـليهـم مـن قـدرتي عـلى أبيهـم.
وهـذا الظـن مـن إبلـيس ليـس عـلما للغـيـب ، إنما هـو قـياس منـطـقـي إذ قاس ذرية النبي آدم عـلى أبيهـم ، فـإذا كان آدم هـو المخـلـوق الأول الـذي خـلـقه الله بـيـده وأسـجـد له مـلائكـته وكـلـفه مـباشـرة ولم يـكـلفه إلا بأمـر واحـد ، ومـع ذلك قـدرت عـليه، فأنا عـلى ذريـته أقـدر، هـذا قـياس لم يـصـل إلـيه إبـليـس ولايـة ولا ولا ذكـاء ، لذلك سـماه ظـنا.
فـلما قـدر وغـلـب إبليس عـلى ذرية آدم وأغـواهـم بالفـعـل قال: ظـني جـاء في محـله لأنهـم بالفـعـل اتبعـوه، قال تعالى:(ولـقـد صـدق عـليهـم إبليس ظـنـه فاتبـعـوه )، ثـم يأتي هـذا الاسـتثـناء، قال تعالى: (إلا فـريـقا مـن المـؤمنـين) فـجـاء هـذا الاسـتثـناء مـطابـقا للاسـتثناء الأول، قال تعالى: (إلا عـبـادك مـنهـم المخـلصـين) (الحجـر ـ 40).
قال تعالى: (ومـا كان له عـليهـم مـن سـلطـان إلا لـنـعـلم مـن يـؤمـن بالآخـرة ممـن هـو منهـا في شـك وربـك عـلى كل شـيء حـفـيـظ ) (سـبا ـ 2) ، وهـذا لتـقـوم الحـجـة عـلينا نحـن البـشـر، فالله عـالم بـكل شـيء مـا في الأرض ومـا في السـماء.
ولما أغـوى إبليس بني آدم ، واتـبعـوه فـهـل لهـم عـذر في ذلك الإغـواء؟، وهـل الـذنب هـنا ذنـب إبليس؟ أم ذنـبهـم هـم والله يخـبر عـنه وعـنهـم هـذا الخـبر في سـياق قـصة سـبأ: (وما كان له عـليهـم مـن سـلطان)، وقـد الـتـقـط إبليس هـذه العـبارة وجـعـلها حجـة له يـوم الـقـيامة.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله في الأسبوع القادم.

ناصر بن محمد الزيدي