[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
”بدأت الطائرة رحلة الهبوط التدريجي الذي أبلغها مدرج مطار ميونخ في قلب أوروبا الصاخب بالحركة والنشاط المترع حتى الثمالة بمدنيته وتحضره وصناعاته وأفكاره المفتون بالتغيير والتحديث وبكل ما هو جديد ومتطور، المثقل بتاريخ حافل بالأحداث الجسام، حيث أنهكت الصراعات على الحكم والحروب المدمرة خاصة خلال القرنين المنصرمين أوروبا،...”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثانيا: نكهات عمانية، أوروبية، شرق أفريقية برفقة السيدة سالمة
هل ستكون رحلتنا إلى خارج السلطنة اليوم هي الأخيرة التي نستقل فيها حافلة المطار إلى الطائرة؟ هل هي لحظات وداع نعيشها مع كل مفصل من مفاصل مطار مسقط الدولي القديم وكل مرفق من مرافقه؟ هل سيتحقق الحلم أخيرا وسنعيش قريبا مناسبة افتتاح المبنى الجديد والكبير الذي انتظرناه سنوات طويلة مضت تحت ضغط الترقب والمتابعة والتعليق والتحليل والنقد؟ هل آن الأوان أن نفخر بمطار مسقط الدولي وأن نتجاوز تلك المقارنات التي نلوكها باستمرار كلما هبطنا في مطار من مطارات العالم الكبيرة والمتقدمة ؟ كل المؤشرات والأخبار والتسريبات والصور التي نطالعها في وسائل التواصل ومشاهداتنا اليومية لأبنية المطار ومرافقه وهي تتجمل وتتزين لليوم المرتقب السعيد تقول بأن موعد افتتاح مطار مسقط الجديد الدولي بات قريبا. استغرقت الرحلة الجوية على متن الطائر العماني انطلاقا من مطار مسقط الدولي وحتى مطار ميونخ سبع ساعات، قضيت الجزء الأكبر من ساعاتها برفقة السيدة الجليلة (سالمة بنت سعيد) التي قدمها الكاتب السويسري (لوكاس هارتمان) في روايته المشوقة (وداعا زنجبار) وترجمها (نيفين فائق) وصدرت عن منشورات الجمل. حياة مثيرة مشوقة مليئة بالمفاجآت، وبالرغم من أنني قرأت المذكرات أو السيرة التي قدمتها السيدة سالمة للمكتبة وطبعت عشرات الطبعات بحلل متعددة وأشكال مختلفة وترجمت إلى مختلف لغات العالم، إلا أن تحويل السيرة إلى رواية أدبية يعلي من قيمتها التشويقية ويضيف إليها الكثير من التفاصيل الدقيقة، رواية تعتمد على السيرة التاريخية الحقيقية للسيدة سالمة وفقا لشخصياتها وأحداثها التاريخية. بين عمان الموطن الأم التي تنتمي إليها السيدة سالمة بانتسابها إلى الأسرة السعيدية الحاكمة، والتي لا شك أنها سمعت الكثير عنها من والدها السلطان واخوانها وأفراد أسرتها، وراودها الشعور العميق بالحب الحقيقي لهذه الأرض وتمنت مرارا وتكرارا أن تهيأ لها الظروف والفرصة لتراها وتزورها ولو لمرة واحدة ولكن أنا لها ذلك مع التحديات والصعوبات الاجتماعية آنذاك، فمن ذا الذي سيرحب ويستقبل أميرة سلمت نفسها لرجل لا ينتمي إليها اجتماعيا ولا عرقا ولا ثقافة ولا دينا وفوق ذلك تخلت عن اسلامها ووطنها وأسرتها العريقة من أجله؟. وألمانيا وطن الحبيب وفاجعة الزوج والأسرة والشتات والمحن ونظامها القيصري الذي استخدم الأميرة (وسيلة لتحقيق أهدافه). وزنجبار الجزيرة الهادئة الجميلة موطن الولادة والطفولة والذكريات والحنين وهيبة الحكم وعاصمة السلطان التي زارتها الأميرة في رحلتين وعاشت حياتها بأمل الحصول على ارثها الوفير حقها من تركة والدها، فلم تجد إلا الصدود والجفاء والرفض فلعنة العشق ظلت تطاردها حتى الموت (الرسالة التي وجهها برغش إليها: قال إنه لم يعد لديه أخت باسم سلمى، لقد ماتت منذ سنوات طويلة). ويافا ومدن الشام التي اختارتها للعيش بعضا من الوقت لتريح روحها وجسدها وفكرها وتعيد مسار أو بوصلة حياتها من جديد وتسجل جزءا من مذكراتها. ورحلات بحرية وبرية وزيارات ومتاعب كثيرة سجلت الأميرة كل ذلك في مذكراتها من (الأول وحتى الثالث)، ونتمنى أن يجد الباحثون والدارسون المزيد من المذكرات التي تثري المكتبة وتقدم جوانب أخرى من حياة الأميرة والأحداث التاريخية لتلكم المرحلة المهمة. بدأت الطائرة رحلة الهبوط التدريجي الذي أبلغها مدرج مطار ميونخ في قلب أوروبا الصاخب بالحركة والنشاط المترع حتى الثمالة بمدنيته وتحضره وصناعاته وأفكاره المفتون بالتغيير والتحديث وبكل ما هو جديد ومتطور، المثقل بتاريخ حافل بالأحداث الجسام، حيث أنهكت الصراعات على الحكم والحروب المدمرة خاصة خلال القرنين المنصرمين أوروبا، ودفعت الشعوب في بلدانها - التي توحدت وتفككت، اتفقت واختلفت، التقت المصالح وتباينت، وتغيرت الخارطة جغرافيا وسياسيا وإداريا أكثر من مرة، وتبدلت المعالم على مراحل زمنية وتاريخية مرات ومرات، فليس من السهل ولا من اليسير أن يقدم الكاتب نبذة مختصرة أو لمحة خاطفة في مقال أو اثنين فيحيط من خلالها بتاريخ هذه المناطق الحافل بالأحداث والمآسي والتطورات الكبيرة - تضحيات مؤلمة وحروب طاحنة، قوى تصعد وتنتصر وأخرى تتراجع وتتلاشى، والحكام والأنظمة السياسية تتعامى عن الدروس البليغة فتغيب الحكمة ويعطل العقل أمام المصالح والهيمنة والتوسع والنفوذ فتتحدث لغة القوة بديلا، وما أجمل ما سطرته الأميرة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان في مذكراتها (الجزء الثاني) التي ترجمها عن الألمانية زاهر الهنائي وصدرت طبعتها الأولى، عن (منشورات الجمل) في 2016م، في حديثها عن (الحرب بين ألمانيا وفرنسا)، - التي انتهت باستسلام فرنسا وتأسيس الامبراطورية الالمانية في يناير 1871 وتتويج فيلهلم الأول قيصرا على الإمبراطورية، والذي كان ملكا لبروسيا - (بعد بضعة أسابيع اشتعلت الحرب الكبيرة بين ألمانيا وفرنسا... قامت الآن بين الأمتين حرب لا يمكن لكم في جزيرتكم الآمنة تصورها، فمئات البشر يضحى بهم من الجهتين، تقريبا مثلما يضحي المسلمون الأضاحي الكثيرة التي لا حصر لها في جبل عرفات ...) وفي موقع آخر من المذكرات تصور كارثية هذه الحرب ودوافعها الحقيقية في تحليل دقيق وقراءة عميقة للشخصية الأوروبية ونمط تفكيرها الذي تسبب في تلك الحروب، وهي رؤية تنم عن فطنة هذه الأميرة وذكائها، وقدرتها على استشراف المستقبل وسبر ما ينتظر أوروبا من حروب مهلكة أتت على الأخضر واليابس بدافع ما ظهر لها عبر المراقبة والتقييم، فرأيها هذا سطرته قبل اشتعال أوار الحربين العالميتين الأولى التي حصدت أكثر من تسعة ملايين انسان وانتهت بسقوط الامبراطورية القيصرية الالمانية، والثانية التي بلغت ضحاياها وفقا لعدد من المصادر 50 مليونا، وما سبقتها من حروب أخرى، أي في العام 1870 قبل الحرب العالمية الأولى بحوالي سبعين سنة، تقول السيدة سالمة (جميع الدول الأوروبية واقعة من قريب أو من بعيد في داء عضال، هو الغيرة، لا أحد يبخل على الآخر بها، وكل دولة تسعى دائما إلى أن تنافس الأخرى بأي ثمن. كل دولة، ولو كانت صغيرة، تملك جيشا كبيرا من الجواسيس، لديه مهمة استطلاع الجار القريب، وبالطبع يسعى رجالات الدولة أيضا بين بعضهم إلى تأكيد أنهم ليس لديهم علم بوجود مثل هؤلاء الأشخاص، وبشكل عام يجتهد في اختراع آلات القتل الجماعية المريعة حتى يجعل الجار في الفرصة القادمة يحس بشكل دقيق بالقوة التي يملكها...)، ولو أسقطنا الصورة المعبرة التي قدمتها صاحبة المذكرات عن الغرب في تلك المرحلة نجدها لا تختلف كثيرا عن واقع العرب اليوم، الذين ما فتئوا يقتلون بعضهم البعض ويدمرون تاريخهم وارثهم الحضاري وانجازاتهم ومدنهم الحديثة بذات الدوافع والأسباب. وعن الألمان الذين أشعلوا فتيل حربين عالميتين تتعجب الكاتبة في مذكراتها من (وطنية الالمان، فتضحيتهم بالنفس والنفيس ذلك الوقت لا تحد بحدود ...)، فيما يعبر الكاتب الطيب صالح عن هذه الحقيقة قائلا (إنما المانيا منذ توحيدها على يدي (بسمارك) في أعقاب هزيمة فرنسا عام 1870، اكتسبت شهرة بأنها دولة عسكرية حديدية صلبة، وأن شعبها على نمط واحد مثل تروس عجلة)، فلا نعجب إذن من أنهم كانوا السباقين إلى اشعال أغلب الحروب في أوروبا خاصة في العصر الحديث. هذه الحروب المتتابعة والصراعات التي أبت أن تتوقف كانت الدافع الأساسي التي مهدت للمناقشات الحامية والجهود المضنية التي قادها عشرات المفكرين في أوروبا لضمان قيام نظام سياسي عادل ينتصر لاختيار الشعوب وارادتهم، وأدت إلى صياغة العديد من النظريات (العقد الاجتماعي)، (الحق الطبيعي)، (سيادة الأمة)، وطورت العديد من الرؤى وسجل الفلاسفة والمفكرون من أمثال جان جاك روسو، توماس هويز، جون لوك وهيغل وغيرهم كثير توجهاتهم وخلاصة أبحاثهم التي وإن تباينت في التفاصيل والآليات إلا أنها جميعها تمهد لنشوء حكم رشيد يقوم على آليات المساءلة وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويحدد الصلاحيات والممارسات بين مؤسسات الحكم ويضمن للمواطن حقوقه السياسية ومنها المشاركة والإسهام والرقابة وتتفق في مضمونها على أن السيادة لمجموع أفراد الشعب، ووجود حقوق طبيعية للإنسان يستخلصها العقل من الطبيعة الإنسانية (السيادة عبارة عن ممارسة للإرادة العامة وأنها ملك للأمة جمعاء باعتبارها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها وليست ملكا للحاكم)، (الأفراد انتقلوا من الحياة البدائية التي كانوا يعيشونها إلى حياة الجماعة السياسية المنظمة بموجب العقد)، فنتجت عنها الأنظمة السياسية الديمقراطية التي طبقتها جميع الدول الأوروبية الغربية ابتداء ولحقت بها الشرقية بعد ثورات أطاحت بالأنظمة الشمولية. وقد عرفت الديمقراطية بأنها (نظام سياسي اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأي المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة)، أما أساس هذه النظرية فيعود إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية وبالتالي فإن الحكومة مسئولة أمام ممثلي المواطنين وهي رهن إرادتهم ...)، وتقوم مبادئ الديمقراطية على المساواة والعدل والحرية .. وتتضمن ممارسة المواطنين لحقهم في مراقبة تنفيذ القوانين بما يصون حقوقهم العامة وحرياتهم المدنية. ومن عجائب القارة الأوروبية ومفاجآت شعوبها أنه من رحم أولئك الذين أطلق عليهم الاقطاعيون (الدهماء) من السويسريين لأنهم أدخلوا الرعب في قلوب (النبلاء الالمان) ووقفوا أمام تسلط الاقطاع والذين وصفهم الامبراطور (ماكسمليان) في بيان وجهه للشعب الالماني بأنهم (أخلاط من الفلاحين الأفظاظ الجبناء، الذين لا أصول ولا أخلاق لهم، ولا يحركهم إلا نكران الجميل وكراهية الأمة الالمانية) فكان فوزهم بحريتهم (أول انتصار للمبادئ الديمقراطية في أوروبا) والذي كان مدعاة للدهشة واتجاها معاكسا للتيار (السائد في أوروبا في ذلك الزمن، وهو الاتجاه نحو تدعيم أمراء الاقطاع) . والأعجب من هذا توجه الكانتونات نحو الاتحاد الذي بدأ قبل أكثر من ثمانمائة عام أي في أغسطس 1291، حيث أقدمت ثلاث كانتونات على عقد (معاهدة فيما بينها كانت الأساس لقيام الكنفيدرالية السويسرية) . كادت ميونخ أن تمسح من خارطة الأرض في الحرب العالمية الثانية وهذا ما حدث فعلا للعديد من المدن الالمانية التي نهضت من ركام الدمار والخراب وهي أشد قوة وبهاء وتألقا، وقدمت المانيا نفسها للعالم نموذجا على قدرة الامم على التداوي من جروحها ومواجهة محنها والنهوض من كبواتها والاستفادة من دروس خيباتها وهزائمها والخروج من ازماتها والانطلاقة نحو المستقبل بعزيمة واقتدار، وإلا كيف يصدق من شاهد البرامج الوثائقية والصورة المنشورة للمدن الالمانية بعيد الحرب العالمية الثانية أنها للأرض التي أراها تستقبلنا بهذا البذخ والازدهار والفخامة والجمال والنشاط والتقدم والحداثة ؟ (يتبع).

[email protected]