الانجليز والهولنديون ... ولعبة المصالح في الخليج

عندما انتهت دولة اليعاربة قامت أربع وحدات جغرافية على أنقاض دولة اليعاربة بعد عام 1753م، والتي اعتبرت أكبر قوة بحرية في الخليج العربي خلال القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر، مما جعل شركة الهند الشرقية البريطانية ترسل أوامرها إلى وكيلها في بندر عباس لوقف هجمات اليعاربة على هذا الميناء الحيوي والدفاع عنه للحيلولة دون خضوعه لسيطرة العمانيين.
غير أن قيام الحرب الأهلية العمانية التي امتدت بين عامي 1711م – 1743م أضعفت عمان، وأدت إلى انقسام قبائلها إلى حزبين كبيرين وهما الهنائية والغافرية، وكان ذلك بداية النهاية لليعاربة والتي فقدت سيطرتها على عمان بوفاة الإمام سلطان بن مرشد وكذلك الإمام المخلوع سيف بن سلطان الثاني، وظهرت بعدها أربع وحدات سياسية جغرافية في عمان الطبيعية تنتمي إلى الحزبين الكبيرين، وهذه الوحدات هي:
أولاً: ساحل عمان الشمالية: وهي رأس الخيمة وما يعرف حاليا بالإمارات الشمالية وهي الشارقة – أم القيوين – عجمان – الفجيرة.
ثانياً: ساحل عمان الجنوبية: ما يعرف حاليا أبوظبي ودبي.
ثالثا: عمان الساحل: وهي مسقط وساحل الباطنة.
رابعاً: عمان الداخل: الجبل الأخضر – الظاهرة – نزوى.
وقامت ثورات في عمان الداخل منذ قام اليعاربة مبايعة بلعرب بن حمير الذي تحالفت القبائل الغافرية معه، ولكن أحمد بن سعيد نجح في القضاء عليه وأزاح أكبر معارض كان يهدد كيان أسرته، ولكنه لم يستطع التخلص نهائياً من اليعاربة الذين استمروا في ممارسة حكمهم في عمان الداخل، وبدأ أحمد بن سعيد ينظم عمان الساحل وكون جيشاً قوياً، واتجه إلى الخليج العربي، فامتدت سيادته إلى الإحساء والبحرين غرباً، غير أنه اشرك أبناءه في الحكم، مما أدى إلى مشاكل واضطرابات واشعال الفتن، وشهدت سنوات حكمه الأخيرة مزيداً من الاضطرابات الداخلية حتى وفاته عام 1883م.
وقد عادت المحاولات الهولندية للسيطرة على ساحل الخليج والتغلغل في فارس بعد الاتفاق الودي بين الشاه عباس الأول والشركة الهولندية بإقامة وكاله لها في بندر عباس أو من جمبرون، وكان هذا يمثل وكاله لها في بندر عباس أو من جمبرون وكان هذا يمثل تحدياً للمركز التجاري للإنجليز، وواصل الهولنديون مساعيهم لصداقة الشاه حيث منحهم حق شراء الحرير الفارسي، وهكذا احتدم الصراع التجاري بين الشركة الهولندية والشركة البريطانية المماثله لها في منطقة الخليج العربي وفارس، وكان العائد الوحيد للإنجليز هو الاستفادة من نقل بضائع التجار الفرس والأرمن والهنود في سفنهم.
وكانت بداية الصراع بين الإنجليز والهولنديين عندما رفض الهولنديين دفع الجمارك في بندر عباس، وكان لدى الإنجليز بعض الشكوك في وجود محاولات هولندية – فارسية لتحصل الشركة الهولندية على جزيرة هرمز، ولذلك جدد الوكلاء الإنجليز في بندر عباس دعاواهم للشركة الإنجليزية بضرورة الحصول على الفوائد التجارية التي يمكنها الحصول عليها من التجارة الفارسية، خاصة بعد أن أحكمت الشركة الهولندية خلال العقد الرابع من القرن السابع عشر قبضتها على تصدير البضائع الفارسية، وتفوق الهولنديين على منافسيهم الإنجليز، وارغموهم على التوجه إلى البصرة في عام 1643م لإقامة أول وكالة تجارية لهم فيها. ونتيجة للأضرار التجارية التي لحقت بالمصالح الإنجليزية، اشتبكت هولندا مع انجلترا في عهد كرمويل في حروب طويلة لحقت خلالها عدة هزائم بالبحرية الإنجليزية في منطقة الخليج العربي وخارجها.
غير أن الصراع لم ينته عند هذا الحد، فلم يستسلم الإنجليز حيث عملت انجلترا على نقل الوكالة أو المؤسسة البريطانية الرئيسية في الخليج من بندر عباس حيث توقفت أعمالها إلى موقعها الجديد في البصرة في العراق التركي، حيث ضمت إلى الوكالة المقيمية البريطانية التي كانت من قبل تتبع الوكالة في بندر عباس.
وعلى أية حال فقد استطاع الهولنديون أن يزعزعوا النفوذ الإنجليزي في فارس، حين تمكنوا عقب وفاة الشاه عباس في عام 1629م من أن يحصلوا من خليفته الشاه صفى على امتيازات تجارية كانت تفوق بكثير الامتيازات التي سبق أن منحت للإنجليز، وكما يعلق أرنولد ويلسن Wilson أنه في بلاد مثل فارس تصبح جميع الاتفاقيات والمعاهدات والامتيازات التي يمنحها الحاكم ملغاة ما لم يثبتها خلفه، وبما أن ذلك استغرق كثيراً من الوقت منذ وفاة الشاه عباس، فقد عانت التجارة الإنجليزية من وضعها السيئ، إذ انتهى الاحتكار الإنجليزي لتجارة الحرير، وأخذ مركز الهولنديين يتفوق عليهم تفوقاً ملحوظاً، وعانت التجارة الإنجليزية من تعثر شديد في فارس والخليج بسبب الامتيازات الواسعة التي منحت للهولنديين، وأخذت الوكالة التجارية الهولندية تنشط نشاطاً كبيراً في بندر عباس، حتى تمكن الهولنديون من الاستئثمار بتجارة الخليج خلال الشطر الأعظم من القرن السابع عشر.
وعلى الرغم من كساد أعمال شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى درجة كانت تستدعى إغلاق الوكالات التجارية التابعة لها في فارس، إلا أن الإنجليز أبقوا على هذه الوكالات رغم إفلاسها خوفاً من أن يقتلعهم الهولنديون نهائياً، وخاصة أن الهولنديين بذلوا نشاطاً كبيراً لتدعيم نفوذهم في المقاطعات الفارسية بمختلف الوسائل، بما في ذلك أساليب الرشوة، وبيع بضائعهم بأقل من تكلفتها الأساسية، كما دفعوا اثماناً مرتفعة لشراء الحرير الفارسي بأكثر مما كانت تطيقه قدرات الإنجليز.
ولم يتوقف الهولنديون مع ذلك في تتبع النفوذ الإنجليزي في كل مكان ينتقلون إليه، حتى أنهم أرسلوا أسطولاً من ثماني سفن كبيرة الحجم، نجحوا بوساطته في تحطيم الوكالة الإنجليزية التي كانت قد انتقلت إلى البصرة، وأصبح واضحاً أنه أصبحوا قادرين على النزاع مزيد من الامتيازات من الحكومة الفارسية التي أصبحت تخضى من بأسهم، ولاشك أيضاً أن طرد البرتغاليين من مسقط على أيدي اليعاربة في عام 1649م كان من أبرز العوامل التي زادت من ميل الكفة الصالح الهولنديين. ولعل تفوق النفوذ التجاري لهولندا كان مما دفع الإنجليز لإصدار قانون الملاحة والتجارة في عام 1651م، وكان هذا القانون يهدف أساساً إلى القضاء على تجارة هولندا البحرية، وفي العام التالي 1652م أعلن كروميل الحرب ضد هولندا. ومع ذلك فعلى الرغم من الإجراءات التي اتخلتها إنجلترا إلا أنها لم تؤد إلى أضعاف النفوذ الهولندي، ففي عام 1654م نشبت معركة بين الأسطولين الهولندي والإنجليزي على مقربة من بندر عباس، حيث نجح الهولنديون في الاستيلاء على بعض السفن الإنجليزية وإغراق بعضها الآخر، وأصبح الخليج في يد الهولنديين بشكل مطلق إلى درجة توقف النشاط الإنجليزي التجاري توقفا تاماً.

محمد بن حمد الشعيلي
أكاديمي في الجامعة العربية المفتوحة
[email protected]