ما الذي يمكن البوح به، في أتون الحصار والتشريد وانتهاكات الاحتلال بحق الإنسان والمكان.. كل يوم يمر علينا، نقترب أكثر من معاناة الفلسطيني على أرضه وفي وطنه، نسمع حكايات كثيرة.. ونرى بكائيات تتجسد صورتها في كل مكان.
وما الذي يقال في هكذا سفر؟!.
الطريق الذي تآلفنا معه.. الجندي الإسرائيلي.. والمستعمرات.. واضطهاد المستعمرين.. والمدن الجميلة، وحكايات الصمود والارادة التي ترافقنا كلما انتقلنا من مدينة إلى أخرى، نشاهد معالمها في هذا الطريق، أو على ذاك السفح، أو قريبا من القرى والمزارع، وحتى على الحواجز التي وضعها الاحتلال، لكسر إرادة الانسان الفلسطيني، وإذلاله على أرضه وفي وطنه، ولكن كل ذلك يرتد خائبا، فهذا الشعب، عصي على الانكسار، يصعب هزيمته، ووأد صموده..
في الطريق إلى نابلس، سمعنا حكاية ثائر حماد القناص الشاب، الذي صدم الاحتلال ومجتمعه ومخابراته بعملية "وادي الحرامية" على الطريق بين رام الله ونابلس في 3 مارس 2002م، بعدما تمكن من قتل 11 جنديا ومستوطنا وجرح 9 آخرين بـ24 رصاصة أطلقها من بندقية قديمة من أسلحة الحرب العالمية الثانية.
وشكلت العملية إحدى الضربات القاسية جدًا التي وجهت للجيش الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية، وبدون أدنى شك أكثرها إهانة، وسارعت الأوساط العليا ومن خلال التحقيق الذي أجري بعد الحادث إلى إلقاء المسئولية على القادة والجنود الميدانيين الأموات منهم والأحياء على حد سواء.
ولم يتوصل الاحتلال لحل لغز العملية إلا بعد أكثر من عامين ونصف العام، استمر خلالها في البحث عن منفذها، وفي الليلة التي اعتقل فيها ثائر، توجه ضباط كبار من قوات الاحتلال لمنزل ثائر لأجل اعتقاله، ومن ثم قاموا بوضعه في غرفة الضيوف، وقام الضابط الصهيوني الذي اعتقله بأداء التحية العسكرية له، ومن ثم قام باعتقاله.
وقد أصدرت محاكم الاحتلال بعد 30 جلسة حكمها على البطل ثائر حماد بالسجن المؤبد 11 مرة إضافة إلى السجن لعشرين عامًا.
في منتصف الطريق تقريبا، أشار محمد شطيح إلى الوادي الذي شهد تنفيذ العملية، وإلى المكان الذي تمركز فيه ثائر حماد، والذي يكشف كل المواقع داخل الموقع العسكري المستهدف، وحسب الفحص الميداني في التحقيق الذي أجراه الجيش الإسرائيلي تبين أن هذه النقطة هي الوحيدة التي لا يمكن أن يشاهد فيها.
كنت أكتب قصة ثائر حماد، وأنا أمتليء بالفخر من بطولة شاب في عقده الثاني، هز أركان الجيش الذي لا يقهر، أكتب وأطرح مع الرفاق السؤال تلو الآخر، عن عملية وادي الحرامية، وتفاصيلها، ومجرياتها، وأسأل كثيرا عن ثائر، الذي أخذ من اسمه نصيبا، فكان بالفعل ثائرا من أجل الوطن وكرامته، حين قال لي محمد شطيح: أدخل على موقع البحث جوجل، وأكتب اسم ثائر حامد، وستأتيك المقالات والأخبار عنه بلا حصر!!.
يا صديقي!... أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، ولها ميلادها
كل فجر، وله موعد ثائر!.
***
أتأمل نابلس من ربوة مرتفعة تطل على وجه المدينة، أقلب بصري بين أرضها وسمائها وجبالها، أعانق الشمس وهي تلملم آخر خيوطها، وتستعد للرحيل، الطرقات تمتليء بالأضواء المتحركة، البيوت تضيء كأنها كوكب دري، الروح تحلق عاليا، تنتشي بلحظات الغروب، والعين تراقب ما تبقى من صورة الشمس المرتسمة في السماء.
نابلس هذه المدينة الجميلة، التي تحتضن أبهى صور للغروب، لا يمكن أن تصرف نظرك عنها، حينما تودعها الشمس، وتسافر خلف الجبال، تظل متعلقا بها، حتى الرمق الأخير، تحاور الجمال فيها، فتكتشف أنك تحاور روحك التي توحدت مع المكان، وصارت جزءا منه.
وصلناها ظهيرة يوم الخميس.. فهدأت أنفسنا بعد طول السفر والتنقل بين الحواجز والطرق الملتوية، وبعد حديث عن بطولة ثائر حامد، وارتاح الفؤاد إلى مسكنها، ورأيت في تلك اللحظة فرحة غامرة، تملأ قلب أبو يزن هشام واصف، وسمعته بعدئذ يقول بسعادة غامرة، إنها مسقط رأسي، وهي بلد أهلي وهنا الكثير من أقاربي.. سأرتاح معهم الليلة، وسأعود إلى رام الله صباح السبت.
كان برنامجنا القادم يشير إلى أننا سنكون على موعد مع مدينة القدس، والصلاة في المسجد الأقصى، مسرى الأنبياء ومهد الرسالات، ومما يؤسف له أن سلطات الاحتلال تحظر دخول الكثير من الفلسطينيين إلى مدينتهم المقدسة، وترفض إعطاءهم أذن الدخول.. وكان هشام واحدا من الذين لم يروا القدس لأكثر من أربعين عاما..
ولأنه ابن نابلس.. الشام الصغيرة، فقد راح أبو يزن يحكي لنا عنها الكثير، عن تاريخها وحضارتها التي تعود إلى حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، أخبرنا عن موقعها المتوسط بين دول العالم القديم، وتأثرها بحضارات المصريين والبابليين والآشوريين والفرس والروم والبيزنطيين.
نابلس قاهرة الغزاة، انطلقت من حاراتها العتيقة ومن بيوتها القديمة المقاومة المجيدة وخطت بدماء شهدائها الأبرار أروع صور التضحية والشهادة، تكفكف الآن جراحها، وتعود سيرورتها في الحياة بهمة ونشاط.
أخبرنا أبو المعتز أن نابلس تعتبر العاصمة الاقتصادية لفلسطين، هنا يمكن للمرء أن يجد البضاعة التي يبحث عنها، بأسعار جيدة، لكن المؤسف أن حال هذه الأسواق، كما أسواق الأراضي الفلسطينية المحتلة جميعها، تعتمد في جلب بضاعتها على الموانئ الاسرائيلية، ويتم ادخال البضاعة إليها عبر الحواجز التي تقيمها سلطات الاحتلال، والتي تقوم من جهة أخرى بإغراق السوق الفلسطيني بالبضائع الإسرائيلية وتضع المنتجات الفلسطينية في منافسة غير متكافئة مع منتجات الكيان الغاصب.
ومع حملات المقاطعة، ورفض المنتج الاسرائيلي وخاصة البضائع الواردة من المستعمرات الاسرائيلية، فإن خطط إسرائيل لضرب المنتجات الفلسطينية، ترتد في كثير من الأحيان خاسرة.
في محل لبيع المواد الغذائية، وجدت البائع يضع ركنا خاصا للمنتجات الاسرائيلية، ويشير إليها بالاسم، لتعريف زبائنه بها، وترك الخيار لهم لشرائها أو مقاطعتها، وبالنسبة لي لم أعر هذا الركن أي اهتمام، بل انتقلت إلى الأرفف الأخرى، التي تحمل بضائع أكثرها من أوروبا وأميركا، ووجدت أغلبها يحمل باللغة العبرية، كونها موجهة في الأساس إلى السوق الاسرائيلي، ومنه تنتقل البضائع إلى السوق الفلسطيني.
سجِّل
أنا عربي
سلبتَ كرومَ أجدادي
وأرضاً كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخور..
فهل ستأخذُها
حكومتكمْ.. كما قيلا؟.
***
وحده مشهد الغروب في نابلس، يعيدني للصورة كلما حاولت نبش ذاكرتي في هذه المدينة، أنظر إلى نابلس، وأستعيد حكايات زاخرة بالجمال النابلسي المتجسد في كل زاوية وكل ركن فيها، كانت منارة المسجد الصاعدة قريبا من الربوة التي وقفنا عليها، تجمل المشهد الماثل أمامنا للغروب، من هذه البقعة التي وقفنا عليها، ونحن نرسل بصرنا شرقا حتى جبل عيبال وغربا حتى جبل جرزيم، نطل على أجمل منظر يمكن مشاهدته في فلسطين كلها، "من دان إلى بير سبع"، كانت نابلس تختال كعروس بألوانها البديعة، وتتباهى بسهولها وجبالها.. بأشجارها ومعمارها.. وبكل شيء فيها.. حتى بالشمس التي تبدو أجمل في سماء نابلس.
كان الأصدقاء الذين شاركوني لحظة الغروب، يوثقون المشهد بعدساتهم، وينتقلون بين صورة وأخرى، كان الوضاح المعولي يصور المشهد تلفزيونيا بصوته، وهو يتحدث عن المدينة وجمالها.. قبل أن يعطيني الكاميرا، لاستكمال التصوير، وكان حمود الطوقي يتداخل معه في الصوت، ليضيف وصفا عن المدينة وعراقتها..
وكذلك فعل عاصم الشيدي، وفعلت عزيزة راشد، ووقفت بعدئذ أنا أضبط عدسة هاتفي على أقرب صورة يمكن التقاطها، كنت أغبط عاصم والوضاح الذين أمتلكوا عدسات تجوب مكامن الجمال، ويلتقطون الصورة تلو الأخرى بامكانيات كبيرة في عدساتهم، وكنت أقف معهم وأطلب صورة لي في هذه الجهة، أو الجهة الأخرى.
كانت معالم نابلس تتداخل كأنها مفردة واحدة، ضمن لوحة تشكيلية، تتمازج فيها ألوان الطيف، فعلى القريب منا يمتد شارع رفيديا ليلتقي بشارع عمر بن الخطاب، الذي يصل حتى مركز المدينة، والبلدة القديمة حيث المباني، التي يزيد عمرها عن أربعة آلاف سنة، وفيها الحارات، والمباني المشيدة على النمط المعماري الحضري التقليدي، والاحواش، والأزقة، والممرات الضيقة، وسبل الماء، والزوايا، وخلفهما يمتليء شارع فيصل بالمحلات والمراكز التجارية الحديثة.
ودون أن أنسى كفاح المدينة، وضروب بطولاتها والبسالة التي أبداها أهلها، مع كل غزو واحتلال يطولها، منذ الاحتلال الصليبي للمدينة، وتسميتها بـ"بوليس"، وحتى الحملة الفرنسية على عكا عام 1899م، ومجزرتهم الرهيبة في يافا، حينها كانت نابلس تسجل حضورها في المقاومة، وكان جبل عيبال مقبرة للفرنجة الذين تم إضرام النار فيهم بعد استدراجهم إليه.
جبل النار
يا صوت الزيتون الأخضر
يا صوت "زيادين" الهدّار
يا ظلّ السيف على عنق الخائن
لبيك أضأت لك البيرق
وأنا في الدرب.
كنا في عالمنا الجمالي نراقب المدينة من عليائها، بعيدا عن باقي الرفاق الذين راحوا يتجولون داخل مستشفى النجاح، ويتعرفون على خططه وإنجازاته، سيما في مجال رعاية مرضى الفشل الكلوي، وتقديم العناية الطبية لهم، وكان ختام جولتهم، جلسة في إحدى القاعات في ضيافة إدارة المستشفى..
ولأننا في نابلس.. فقد عرفنا في هذه المدينة المذاق الحقيقي للكنافة، التي تعتبر من أشهر الحلويات الشرقية في بلاد الشام، وترتبط بمدينة نابلس، ولا تذكر دونها، كانت أطباق الكنافة النابلسية التي توزعت علينا، مع القهوة أو الشاي، من ألذ ما أكلت من الحلويات في هذه البلاد..
والمصادفة الجميلة، أن الكنافة النابلسية ذاتها، كانت حاضرة في زيارتنا إلى مشروع بناء مدرسة مسقط، في مدينة أريحا، حيث حرص مقاول المشروع على تقديمها لنا كضيافة كريمة منه، وأخبرنا حينها أنه تعاقد مع ذات الشخص الذي جلبها لنا في مستشفى النجاح، وهي صناعة منزلية، بطعم ألذ وأجمل من الموجودة في الأسواق.
ورغم ارتفاع السكر فيها، إلا أن طعمها اللذيذ، جعلنا نعيد الكرة ثانية، وأخذ طبق آخر منها، استمتعنا بطعمه أنا والرفاق.
وليست الكنافة وحدها من يرتبط بنابلس، فالمدينة تشتهر كذلك بصناعة الصابون التقليدية، بالإضافة إلى بعض المنتجات الزراعية مثل الزعتر النابلسي والجبن النابلسي.
كان الليل قد أسدل ستاره على نابلس، وكان أمامنا برنامج آخر حرصنا على وجوده ضمن جولتنا في المدينة، وهو زيارة جبل جرزيم هناك.. هذه الرغبة نبعت أول مرة، قبل مقدمنا إلى فلسطين في لقائنا مع السفير الفلسطيني في مسقط، الذي أخبرنا عن جبل جرزيم وعن الطائفة السامرية التي تقيم فيه والتي تناهض الصهيونية وتعتبر إقامة إسرائيل كفرا، وحفزنا لزيارة المكان.. فكان لنا ذلك.
أُفكِّر، من دون جدوى:
بماذا يُفَكِّر مَنْ هُوَ مثلي،
هُنَاكَ على قمَّة التلّ، منذ ثلاثةِ آلافِ عامٍ،
وفي هذه اللحظة العابرةْ؟
***
على ارتفاع يقارب الألف متر عن مستوى سطح البحر، كانت الحافلة تقودنا إلى جبل جرزيم برفقة محافظ نابلس جبرين البكري، وكان الليل قد بسط عباءته، وغطى الكثير من معالم المدينة، وكانت الدور السكنية والمباني المتوزعة على هضاب ومرتفعات المدينة، تتلألأ بأنوارها، كلوحة تكتظ بالتفاصيل الجميلة.
كانت صورة ضبابية الملامح ترتسم عن أتباع الطائفة السامرية، واستخدامهم للسحر الأسود، وتسخير الجن في مآربهم، تسبقنا إلى وجهتنا، كانت الأساطير والحكايات عنهم تختلط بين الواقع والمتخيل، وبين الحقيقة واللاواقع، ولذلك كنا في الطريق صعودا إلى الجبل نحوقل ونقرأ المعوذات وآية الكرسي، كيلا يصيبنا ضررهم، ولا يمسنا سحرهم.
حين توقفت الحافلة، نزلنا ببعض الخوف والتوجس، وأعيننا تمشط المكان، حيث ثمة أطفال صغار يجلسون أمام إحدى البقالات، غير عابئين بالمدرعة الإسرائيلية التي دخلت المكان، وجنودها مدججين بالسلاح.
في الدار التي حملت اسم الكاهن الأكبر واصف توفيق ابن الكاهن الأكبر توفيق خضر، استقبلنا الكاهن حسني واصف السامري، الذي أشار إلى تقديم بعض الحلويات لنا، رأيت توجس الكثير من الرفاق من الأكل أو شرب أي شيء يقدم هنا.
كان حديث الكاهن حسني السامري، طويلا عن طائفته، وعن ولائهم للدولة الفلسطينية، وحدثنا عن مساعدة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي تعامل مع الطائفة السامرية باعتبارها جزءا أصيلا من الشعب الفلسطيني، ودعمهم في إقامة المتحف السامري الموجود في جبل جرزيم، وتخصيص مقعد لهم في المجلس التشريعي الأول ومثل الطائفة فيه، آنذاك، الكاهن سلوم، معربا عن حزنه من إلغاء المقعد السامري في المجلس التشريعي الثاني.
كان الحديث مع الكاهن حسني السامري يمتد بنا، حينما أشار مرافقنا محافظ نابلس جبرين البكري، بالمغادرة، حتى لا نتأخر على المعابر الإسرائيلية التي تتوزع بشكل عشوائي في الطرقات المؤدية إلى الضفة الغربية ورام الله.
في الشارع الخارج من جبل جرزيم، إلى مدينة نابلس، تأملت الجبل الذي بدأ يختفي شيئا فشيئا.. وأنا أسترجع التساؤلات الحائرة التي انبثقت من لقاء الكاهن حسني السامري، وما قيل لنا عنهم قبل لقائنا بهم، دون أن استبعد الدور الصهيوني في تشويه صورة ومعتقدات هذه الطائفة، كدأبهم في تزوير التاريخ، بما يتفق مع أهوائهم.
و"يرحلون" من البيوت إلى الشوارع،
راسمين إشارة النصر الجريحة، قائلين
لمن يراهُمْ:
"لم نَزَلْ نحيا، فلا تتذكّرونا"!.
للحكاية بقية

خلفان الزيدي
Twitter: @khalfan74