[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
السياسة والعسكرة لا يمكن لهما أن يمرا دون وجود ذرائع قوية على الأرض تسمح لهما بالمرور، ويتوافر لهذه الذرائع من القبول ولو أدناه لدى الرأي العام العالمي.
تاريخ الولايات المتحدة السياسي والعسكري مليء بالشواهد على أن القوة العظمى إذا أرادت تحريك سياستها أو آلتها الحربية لا بد بداية أن توجد لها الذريعة التي تخولها للتحرك نحو الهدف، وهذا التاريخ لا يزال يسجل المزيد من الشواهد في وقتنا الحاضر. ولعل تنظيم "داعش" الإرهابي اليوم يمثل أكبر دليل، بل وأفضل ذريعة يتوصل إليها العقل الاستراتيجي الأميركي الساعي إلى إحكام الهيمنة الأميركية على العالم أجمع، لا سيما وأن هذا الإبداع والابتداع الأميركي جاء بعد حصاد مر مرغ الهيبة الأميركية في التراب، وأدخل صورة السلاح الأميركي ـ التي عملت واشنطن على ترويجها على أنه أسطورة العصر في الذكاء والفاعلية المتعددة ـ في أنفاق من الشكوك لدى مقتني السلاح الأميركي، في حين منافسه الأبرز على الساحة العالمية ونعني به السلاح الروسي يواصل تسجيله نقاط تفوقه في القدرة والفاعلية ودقة التصويب. ولعل صواريخ الكروز أو التوماهوك التي أطلقتها البوارج الحربية الأميركية من المتوسط على قاعدة الشعيرات السورية مؤخرًا والبالغ عددها تسعة وخمسين صاروخًا والتي وصل منها ثلاثة وعشرون صاروخًا فقط إلى الهدف، تعكس الصورة الحقيقية لها مع فاعلية ودقة نظيرتها الروسية وهي صواريخ كاليبر التي دشنت موسكو استخدامها في استهداف تنظيم "داعش" الإرهابي.
لا أحد بمقدوره أن ينكر بعد اعتراف المسؤولين السياسيين والاستخباراتيين الأميركيين والبريطانيين وغيرهم أن تنظيم "داعش" ولد على يدي "الداية" الأميركية في العراق، ثم جرى تحريكه إلى سوريا لإسقاط الرئيس بشار الأسد ـ وباعترافهم أنفسهم. وبعد عمليات النفخ والتوحش والتوجيه التي عمل عليها المربون والداعمون تمكن التنظيم الإرهابي من عبور المحيطات وهدد دولًا وشعوبًا في عقر دارها، وأخذ يتوسع ليشمل إفريقيا وأوروبا ـ طبعًا بالإضافة إلى آسيا ـ مستظلًّا باستراتيجية أميركية عمادها تحالف مكون من أكثر من ستين دولة.
إن هذا التمدد لتنظيم "داعش" ليأخذ مكان القاعدة في العالم كله، ويصبح الشغل الشاغل له، بات مطلبًا أميركيًّا ملحًّا، بعدما خفت بريق التنظيم الأُم؛ "القاعدة"؛ وبالتالي إعلان الاستمرار في محاربته غير ذات جدوى أمام الرأي العام العالمي؛ لذا كان لا بد من إعادة إنتاجه باسم جديد، وتسخير كل الإمكانات ليتحول إلى وحش يتم تعويمه وتعميمه على جهات الأرض الأربع، وتسخير الإعلام ليتكفل بتضخيمه في صورة اللاوعي، ليكون الذريعة لعقد جديد من الغزو والاحتلال والحروب والعسكرة والسطو على ثروات الشعوب باسم محاربته وخطره.
وتحت الذرائع والعناوين الآنفة الذكر، يأتي المشهد الفلبيني ليسلط الضوء على حقيقة ما قلناه، فبمجرد إعلان الرئيس الفلبيني رودريجودوتيرتي عن عزمه زيارة روسيا الاتحادية لبحث تزويد موسكو لبلاده بأسلحة روسية، كانت التحضيرات لزعزعة الاستقرار في بلاده تطبخ على نار هادئة حتى ساعة وصوله موسكو، ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ لأنه لا يمكن للمصادفة وحدها أن يتزامن قيام تنظيم "داعش" الإرهابي بهجوم إرهابي على مدينة ماوري ويسيطر عليها مع زيارة الرئيس الفلبيني لموسكو، ما اضطره إلى قطع زيارته والعودة إلى بلاده، خاصة وأن الرئيس كانت له تصريحات قبل الزيارة وبعدها، وهي تصريحات في الميزان الاستراتيجي الأميركي تعد استفزازًا، سواء تصريحه بأنه سيقدم زيارته إلى موسكو أولًا، ثم ينظر بعد ذلك في زيارة الولايات المتحدة، حيث قدم له الرئيس دونالد ترامب دعوة لزيارة بلاده، وهذا في الكبرياء الأميركي يعد تقليلًا لأميركا التي تنظر إلى نفسها على أنها سيدة العالم، أو تصريحه المتعلق بالسلاح، حيث أكد الرئيس الفلبيني أنه يعتزم عقد صفقة شراء أسلحة روسية حديثة لمحاربة الإرهاب في بلاده، طالبًا مساعدة الروس في هذا الشأن،متعهدًا بأنه لن يقبل بعد الآن أسلحة مستعملة من الولايات المتحدة. وفي هذا أيضًا تحطيم وإساءة لسمعة السلاح الأميركي في خضم التنافس الشديد بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة بشأن مبيعات السلاح وإثبات قدرته وفعاليته. وسبق للرئيس رودريجود وتيرتي، أن أعلن، أن بإمكان الفلبين قطع علاقات التعاون العسكري التقني مع الولايات المتحدة لصالح إقامة اتحاد في مجال الدفاع والاقتصاد مع روسيا والصين. وقد استثمر بوتين الزيارة والمطالب الفلبينية كما يجب، فتوجه إلى نظيره الفلبيني بالقول: "لدينااتجاهات واعدة كثيرة، بمافيها التعاون في مجال الطاقة والصناعات الهندسية والبنية التحتية للنقل وبالطبع التعاون العسكري التقني". وبالتالي فإنه في ظل التوجه الأميركي نحو آسيا ومحاصرة المنافس الشرس الآخر وهو الصين، وقيام الفلبين بتسهيلات وعقد صفقات تسمح للدب الروسي للتموضع بصورة أكبر وتمكين نفوذه، فهذا يعد خطًّا أحمر ويصطدم مع التوجه الأميركي، لذلك لا بد من إثارة مسببات صداع مزمن وقلق للدولة الفلبينية وليس لشخص رئيسها وحده لإعادة حساباتها، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء، باعتبار أنها من ضمن مناطق النفوذ الأميركي، لهذا جاء الهجوم الإرهابي على الملهى الليلي رسالة إضافية لما يحدث حاليًّا في مدينة ماوري، وإذا كانت مانيلا قد فهمتها أو لم تفهمها، فإن المتابع بالتأكيد قد فهم بدوره من هو تنظيم "داعش"، وأين يقع في الوجدان السياسي الأميركي؟ وما حجم الأدوار الموكولة له ومدى التعويل عليه في إنجازها؟

[email protected]