مات الممثل الأيرلندي بيتر أوتول يوم 14 ديسمبر الماضي.. تملكتني الدهشة.. فصحفنا العربية نشرت الخبر في صفحاتها الفنية! وأحيانا في بضعة سطور.. نقلت مشاعري تلك لزوجتي.. سألتني: أليس أوتول هذا هو بطل فيلم "لورانس العرب"؟
"قلت لها: نعم! قالت بدورها في استغراب :فأين تريد أن ينشر الخبر طالما هو ممثل؟! ولم أجب.. لم يكن لدي ما هو يقيني جلي لأجيب به.. شتات من المشاعر مابين حنين أنستولوجي لعقد الستينيات حيث الأحاسيس العروبية مع أجواءالصحوة القومية.. والشعور بالمرار وأنا أشاهد فيلم لورنس العرب مع زملاء الدراسة بالمدرسة الإعدادية في دار السينما بالمدينة الصغيرة التي تبتعد عن قريتي بضعة كيلومترات.. كان ذلك ـ إن لم تخني الذاكرة في إحدى أمسيات صيف 1964.. وهو الفيلم الذي أخرجه المخرج البريطاني ديفيد لين وشارك في بطولته ممثلنا الكبير عمر الشريف.. والممثل العالمي أنطوني كوين.. كنا ندرك أن لورنس هذا كان يخدع أصدقاءه العرب حين أوهمهم بأنه يعمل من أجل تحقيق طموحاتهم في الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية.. وهوفي حقيقته عميل سري في المخابرات البريطانية.. مهمته بالفعل مساعدة العرب على إلحاق الهزيمة بالعثمانيين.. ليس من أجل استقلالهم.. بل لافساح الطريق أمام سيطرة بريطانية - فرنسية على المشرق العربي! وهو المخطط الذي فضحه البلاشفة الروس عقب الاطاحة بالقياصرة واستيلائهم على السلطة في أكتوبر 1917..حين كشفوا النقاب عن اتفاقية سايكس بيكو!
ولأننا أخيرا رددنا الصاع صاعين للاستعمار مع استقلال غالبية الأقطار العربية.. كان يتملكني أيضا وأنا أشاهد الفيلم في تلك الأمسية البعيدة الشعور بالشماتة في لورنس الجاسوس الاستعماري.. والقصة طويلة.. لم يكن ماحدث خلال الحرب العالمية الأولى في المشرق العربي.. والسنوات التالية لانتهاء الحرب.. سوى فصل من المسرحية الممتدة منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي.. حين جيش البابا أوريان أوروبا عام 1096 م في حملة ضخمة شقت طريقها إلى المشرق لتخليص مدينة القدس من أيدي "الكفار" العرب!.. وحتى المؤرخون الأوربيون.. لم يغفلوا أبدا المذابح التي ارتكبها الصليبيون في مدينة السلام.. حين استباحوا كل ما هو عربي ومسلم في المدينة..بل أنهم اقتحموا المسجد الأقصى وذبحوا ألاف المسلمين الذين لاذوابه!.
وعودة إلى الذكريات المؤلمة التي أثارها موت الفنان الأيرلندي بيتر أوتول الذي ارتبط اسمه وشهرته بعميل المخابرات البريطانية الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورانس حين جسد شخصيته في الفيلم الشهير "لورانس العرب"..
فخلال الحرب العالمية الثانية تحالفت تركيا مع ألمانيا.. ومثل هذا التحالف تهديدا قويا للحلفاء خاصة بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية خاصة في منطقة الشرق الأوسط.. والتقت مصالح الدول الثلاث على ضرورة توجيه ضربة قوية للأتراك في المشرق العربي من خلال حث العرب على إشعال الثورة ضد الأتراك..وبدا على السطح التقاء مصالح القوى الثلاث مع طموحات العرب الذين يسعون إلى الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية التي أذاقتهم مرار التخلف والفقر والقهر ومحاولة طمس هويتهم من خلال فرض اللغة التركية..كان الحلفاء وخاصة الإنجليز يعزفون خلال محادثاتهم مع الشريف حسين بن علي شريف مكة على أنه آن الأوان لأن تعود الخلافة إلى البيت العربي..فالعرب هم أولى بقيادة دولة الخلافة من بيت آل عثمان!.
وقد عرفت المراسلات التي تمت بين الإنجليز وشريف مكة بمراسلات حسين - مكماهون..حيث تبودلت العديد من الرسائل بين حسين بن علي (شريف مكة) وهنري مكماهون حامل لقب سير الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر مابين عامي 1915 و1916.. وكان موضوع الرسائل يدور حول المستقبل السياسي للأراضي العربية في الشرق الأوسط.. حيث وعد مكماهون حسين بن علي باعتراف بريطانيا بآسيا العربية كاملة دولة عربية مستقلة إذا شارك العرب في الحرب ضدالدولة العثمانية.. وهذا ما تم خلال.. ولأن النزعة القومية لدى شرائح عديدة من النخبويين العرب كانت متأججة في تلك الفترة بسبب ما لحق بالعرب من قهر وجور بسبب التبعية للامبراطورية العثمانية.. فقد رأى القوميون العرب وعود مكماهون في رسائله على أنها عهد بالاستقلال الفوري للعرب...فأشعلوا ثورتهم بدعم وتوجيه من الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورنس..
وكانت المجازر التي ارتكبها الضابط العثماني جمال باشا السفاح ضد القوميين العرب في الشام دافعا لقادة حركة استقلال العرب لممارسة الضغوط على الشريف حسين لإعلان الثورة.. وقد استجاب شريف مكة.. وانطلقت شرارة الثورة في 10 يونيو 1916..حيث اندلعت المعارك في جدة يوم 13 يونيو واندحرت الحامية التركية.. وحرر العرب مكة في 9 يوليو 1916.. وتوالى سقوط المدن والثغور على البحر الأحمر في أيدي الثوار العرب.. إلى أن سقط ميبناء العقبة في أيديهم في يوليو 1917.. وانشق الكثير من الضباط العرب عن الجيش العثماني وانضموا للجيش العربي الذي انطلق في ربوع الشام ليحرر بيروت وحلب وحماة وطرابلس وصيدا وصور وحمص. وفي أكتوبر تم تأليف الحكومة العربية الأولى في بيروت، ورفع العلم على سرايا بيروت.
تمكنت الثورة من طرد القوات التركية من الحجاز، ومن مناطق في شرق الأردن، وساعدت المجهود الحربي البريطاني عسكريا وسياسيا في المشرق العربي.. وعاش العرب الحلم الجميل..تأسيس الدولة العربية الكبرى..ولم يكونوا على دراية بما يخطط لهم في الخفاء.. فإذا كان الهدف الأول للتحالف الثلاثي "بريطانيا ـ فرنساـ روسيا" توجيه ضربة موجعة للأتراك حلفاء ألمانيا.. إلا أن هذا الهدف سرعان ماتطور ليصبح تقويض الدولة العثمانية.. وتوزيع الميراث في المشرق العربي على الدول الثلاث.. لكن هذا الهدف الذي ترجم إلى اتفاقية تفصيلية عرفت باتفاقية سايكس بيكو لم يكن للعرب علم به..ومعاهدة سايكس ـ بيكو.. والتي وقعت في مايو 1916 هي الجزء الخاص التنفيذي لمعاهدة بطرسبرح التى عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية خلال مارس سنة 1916 م.. وقضت الدول الثلاث فيها بتقسيم أملاك الامبراطورية العثمانية التركية بحيث تمنح روسيا الولايات التركية الشمالية والشرقية كما تمنح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية في الامبراطورية التركية مع تدويل الاماكن المقدسة في فلسطين وتأمين حرية الحج اليها وتسهيل سائر السبل اللازمة للوصول إليها وحماية الحجاج من كل اعتداء..وكان هذا تمهيدا لإعلان وعد بلفور والذي صدر بالفعل في الثاني من نوفمبر 1917م، والذي منح اليهود حق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين..وهو ما عبر عنه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في رسالته للرئيس الأميركي جون كيندي عام 1960"بقوله: لقد منح من لايملك حقا لمن لايستحق!!.
وماذا كان دور عميل المخابرات البريطانية توماس إدوارد لورنس في هذا المخطط؟ ففي كتابه المثير للجدل "أعمدة الحكمة السبعة" والذي أفاض لورنس خلال صفحاته في الحديث عن علاقاته بالقبائل العربية وتعبئتها في الحرب ضد الأتراك وهو الكتاب الذي اتكأ عليه المخرج البريطاني ديفيد لين في صناعة فيلمه.. يقول لورنس:
أن العربي حين يصدق بك ويؤمن برسالتك، سوف يتبعك إلى أقاصي الدنيا، ولو بذل في ذلك حياته.
هؤلاء هم العرب..فهل كان لورنس في المقابل صادقا وأمينا في علاقته معهم..؟ هل أخبرهم أنه ضابط في الاستخبارات العسكرية البريطانية؟.. هل أخبرهم بمخطط سايكيس بيكو؟! لقد وصف الزعيم البريطاني ونستون تشرشل الكتاب بقوله: عنه "...كل ما فيه مبالغ فيه وشخصي "أما لورنس نفسه فقد قال لأحد أصدقائه: "إن كتابي بني على أكاذيب ولأنني قد أصبحت بطلا أسطوريا فقد كان من الضروري أن أعيش هذه الأسطورة"!! وقال في رسالة لصديقه إدوارد جارنت "إن كتابي مهزلة لا تستحق أن تقرأ.. فإذا أردت أن ترى بعينك كيف تشوه الأفكار الجميلة والمادة الرائعة فارجع إلى أي صفحة من صفحات الكتاب، إنني لا أعتقد بأن هناك أي ناشر في فليث ستريت يرضى حتى بأن يحرق الكتاب فكيف بحق السماء تعتقد بأني قد جئت بعمل ممتاز".
وتلك تفاصيل قصة العلاقة بين لورنس و"أصدقاؤه" العرب بعيدا عن الأكاذيب التي وردت في كتابه.. حين اشتعلت الحرب العالمية الأولى وأعلنت تركيا العثمانية الحرب على بريطانيا.. قرر الانجليز حشد كل إمكانياتهم في المنطقة لإلحاق الهزيمة بتركيا في المشرق العربي.. وكان من الأسلحة التي توفرت للإنجليز الخبير بالأثار في المشرق العربي توماس إدوارد لرونس..والملم إلماما جيدا باللغة العربية.. وتفاصيل الجغرافيا العربية نتيجة زياراته للبنان وسوريا والأردن ومصر.. وإقامته في أكثر من منطقة عربية لفترات طويلة.. وتم تعيين لورنس في قسم الخرائط بالقيادة العليا للجيوش البريطانية في القاهرة.. وقد أبدى لورنس خلال عمله أراء بدت صائبة في الخطط العسكرية البريطانية فتم نقله إلى قسم المخابرات السرية.. خاصة وأنه كان على علم تام بالمواقع العسكرية التركية في المشرق العربي.. وقد استثمر لورنس علاقته بالعرب لا يهامهم بمقدرته على مساعدتهم في إلحاق الهزيمة بالأتراك.. وقام بجولة في الجزيرة العربية وعضد من علاقاته بالأمير فيصل ابن الشريف حسين.. حيث رأى في فيصل صفات الزعامة.. وبالفعل عمل مستشارا عسكريا له.. وخلال الظروف العصيبة التي واجهت الجيش العربي في معاركه ضد الجيوش التركية خاصة في الشام.. كان صوت لورنس مقنعا للقيادة البريطانية لزيادة دعمها للجيش العربي.. بل واستخدام القوات الجوية البريطانية في شن غارات على القوات التركية التي حاولت استعادة ميناء العقبة أو في معارك مدينتي عمان والسلط..
وكان ثمة صراع داخل معسكر الحلفاء بين وجهة نظر طرحها "بريموند" رئيس البعثة العسكرية الفرنسية في جدة.. والذي طالب بالتدخل العسكري البريطا- فرنسي المباشر لطرد القوات التركية من المشرق العربي.. وبين رؤية لورنس الذي كان يرى أن القوات العربية مع تدعيمها بالأسلحة الحديثة قادرة على دحر الأتراك.. وأن أي تدخل بريطاني فرنسي مباشر قد يثير حفيظة الكثيرين من الثوار العرب فينسحبون من الحرب! وكانت الغلبة للورنس!.
لقد شعر الفريق عزيز المصري الذي عينه الشريف حسين رئيسا لأركان جيش الثوة العربية ووزيرا للدفاع بأن الدعم البرياطا- فرنسي للثورة ليس هدفه معاونة العرب على الاستقلال واستعادة الخلافة من آل عثمان.. بل طرد الأتراك من المشرق العربي تمهيدا لمد نفوذ الدولتين العظميين في المشرق العربي.. وكان يرى أن الضابط الانجليزي توماس لورنس يلعب دورا مشبوها في تنفيذ هذا المخطط.. وقد صدق حدس الفريق عزيز المصري.. حين كشف البلاشفة عن الاتفاق الثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية لتقسيم الممتلكات التركية في الشرق!..
وما الثورة التي ساعد فيها لورنس العرب على إشعالها ضد الأتراك العثمانيين عام 1916 سوى حرب بالوكالة.. وماهي إلا فصل من فصول مسرحية التآمر والتربص بأمتنا.. الذي لم يسدل الستار على أحداثها بعد ورغم تصريحات السياسيين عبر ضفتي الأطلنطي عن قيم المعايشة وقبول الآخر والسلام والتسامح.. مازالت النزعة الاستعمارية متأججة تنضح بالغل والحقد تجاه كل ماهو عربي! لكل هذا قرأت بعين عربي متخمة ذاكرته بمرار المؤامرات على وطنه وأمته قرأت خبر وفاة لورانس..وليس بعين مشاهد مولع بفن السينما..

محمد القصبي