[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
”بمحض الصدفة اكتشفنا أن بحيرة الملك تقع ضمن الأراضي الألمانية، وليست تابعة للمناطق النمساوية، ففي هذا التطواف كنا نغادر الأراضي الألمانية وتستقبلنا المناطق النمساوية ونودع إيطاليا، ونشق طريقنا بين هذه الدول أكثر من مرة بالسيارة التي استأجرناها في فترة إقامتنا التي بلغت الأسبوعين تقريبا فلا نشعر باجتياز الحدود وكأننا في بلد جغرافي واحد فلا بوابات حدودية يقف أمامها البشر طوابير..”
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

رابعا : سالزبورج
الطريق من ميونيخ وحتى المدينة النمساوية (سالزبورج) يشق طريقه بين جنان منبسطة فرشت بالعشب والشجيرات والأزهار الزاهية بألوانها المتناسقة، وكانت مشاهد الغابات الكثيفة والأنهار المتدفقة والجداول المنسابة من قمم سلسلة جبال الألب والشلالات التي تسقط من الشواهق والبحيرات الطبيعية النقية تستولي على العقول والقلوب والمشاعر فيخيل للإنسان بأنها الجنة التي وصفها رب العزة في قرآنه المجيد ولا بد من يتساءل إذا كانت هذه جنة الدنيا فكيف بالأخرى؟ السحب تنقشع وتتجمع، تضعف وتتكاثف استجابة للهواء والعوامل الجوية المتهيئة لتساقط المطر أحيانا أو توقفه لبعض الوقت، والشمس تطل على عالمنا الأشبه بحلم كلما واتتها الفرصة من بين الغمام كملك مهاب يعتلي عرش السماء لتلقي بأشعتها على قمم تكتسي بياض الثلج وغابات مبللة بماء المطر عارضة للمتأمل والمتدبر والفنان والعاشق أجمل وأغلى لوحة فنية صنعها الخالق في هذا الكون وأبهى صورة للطبيعة البكر. القرى الزراعية التي - يقوم اقتصادها على الزراعة وتربية وتنمية المواشي من ابقار وخيول وماعز ودواجن تتغذى وتقتات مما تنتجه الطبيعة - فتتناثر بين السفوح والقمم بمنازلها الأنيقة ومباني كنائسها التي تشي بعصر كنسي مزدهر. بعد ساعتين من التأمل والمتعة والتشويق وبعد رحلة عشق جمعتنا فيها الطبيعة بمناظرها الخلابة، وصلنا(ماري الم) حيث محل اقامتنا في فيلا أنيقة وجميلة من ثلاثة طوابق، تحيط بها جبال شاهقة تلتحف رؤوسها الشامخة عمائم الثلج وغابات كثيفة تخترقها طرق خاصة بالمشائين وجداول وانهار لا تنضب. القرية الصغيرة الهادئة سياحية بامتياز فأزقتها الملتوية المغطاة بالحصى والرخام ونهرها الهادر المتدفق بين المنازل وساحتها الرئيسية الأنيقة التي تتوسط القرية وتجمع شمل سكانها وزوارها وكنيستها الوحيدة وأبنيتها الجميلة التي خصص بعضها كنزل والأخرى مطاعم ومقاهي ومحلات تبيع التحف والملابس التقليدية، شكلت لوحة فنية بديعة تبهر السياح.
سالزبورج المدينة النمساوية العريقة ذات الإرث التاريخي الفواح بنكهات الماضي الموغل في الأزمنة الرومانية السحيقة لا يشعر السائر في دروب ساحاتها وأسواقها وأزقتها وجاداتها وكنائسها ومتاحفها القديمة قدم الامبراطوريات والإمارات المتعاقبة عليها ومقاهيها ومطاعمها الراقية المنتشرة في الباحات والزوايا بحركة الزمن وهو يضيق عليه الخناق ويضغط عليه كلما اقترب موعد مغادرة المدينة ... أسفا على أن برنامجه السياحي لم يسعفه أو لم يتح له البقاء والاستقرار بما يكفي برفقة هذه التحفة الفنية التي تعادل في ثرائها الواسع والمتنوع تلك الأعمال الموسيقية التي تعد واحدة من نوابغ الزمان التي أنتجها فنانها العبقري فولفغانغ اماديوس موتسارت وبلغت 626 عملا موسيقيا وقاد أوركسترا وهو في السابعة من عمره، وترك إرثا فنيا وموسيقيا شهيرا جعل من مؤسسة موتسارت الدولية ان تتخذ قرارا بتدشين اول متحف في مسقط راسه في ١٥ يونيو ١٨٨٠ والتي اصبحت وجهة ثقافية لآلاف الزوار وعشاق موتسارت من مختلف انحاء العالم، ذلك بالرغم من أن الموت قد اختطفه وهو في عمر الـ 35 عاما . تعد مدينة سالزبورج واحدة من أهم المدن العالمية الرائدة في الطراز المعماري الفريد وهو ما لفت نظر منظمة اليونسكو للثقافة والتراث فاتخذت قرارا في عام ١٩٩٧ بوضعها على قائمة اليونسكو للثقافة والتراث الطبيعي . تتميز المدينة الى جانب معمارها الرائد وهندستها الفريدة ومفردات جاذبيتها العديدة بمناظرها الطبيعية الخلابة وبحيراتها العذبة ونهرها الرقراق سالزاك الذي - يشطر المدينة الى قسمين ليضيف اليها جمالا واناقة وابداعا - والتي تتغذى بجداول وشلالات قمم جبال الألب الملتحفة ببياض الثلج طوال العام . قلعة سالزبورج القديمة قدم المدينة والتي بناها الرومانيون على قمة جبل مونشسبورج تحد بحق تحفة فنية معمارية لا تضاهى في اوروبا، فموقعها المرتفع المشرف على المدينة وتصاميمها الهندسية الفريدة وقوة تحصيناتها وتاريخها العريق جعل منها واحدة من اهم معالم القارة الأوروبية. اخذت منا الجولة في مرافق القلعة وابنيتها وأبراجها ومتحفها الذي يحكي تاريخ النمسا من خلالها نصف يوم ولم نتمكن من الإحاطة بكل تفاصيلها الدقيقة. جدرانها الخارجية المهيبة والقوية بسمكها الواسع تمتد من الأساسات الأرضية في المناطق المنخفضة التي تضم أسواق ومركز المدينة القديمة وترتفع الى قمة الجبل الذي بنيت عليه القلعة لتلتحم مع الأبراج والأبنية والمرافق التابعة لها. ويحتوي المتحف على شروحات وصور تحكي تاريخ القلعة والإمبراطوريات والإمارات التي توالت عليها والحروب والانتصارات التي حققتها ومقتنيات لا حصر لها من أسلحة قديمة وحديثة تبرز تاريخ تطور السلاح في النمسا وأدوات التعذيب المخيفة التي يمارسها الحكام والأمراء والقادة تجاه معارضيهم والأثاث والأواني والأدوات التي تستخدم طوال الفترات التاريخية والتي تبرز كذلك ازدهار الحياة في القلعة خاصة وفي سالزبورج بشكل عام ... الاطلالات من زوايا وجوانب القلعة المشرفة على المدينة القديمة والحديثة يشطرهما نهر سالزاك تسلب لب الزائرين والسياح الذين لا يتوقفون عن التقاط افضل الصور والمناظر . قيمة تذكرة الدخول الى القلعة وزيارة متحفها عن طريق العربات الكهربائية التي تنقل الراغبين من الأسفل إلى الأعلى والعكس ١٥ يورو . تعبر كاتدرائية سالزبورغ بدون ادنى شك عن عظمة الهندسة والبناء الكنسي والكاتدرائيات في أوروبا فواجهاتها الراقية وقببها الخضراء المهيبة وزخرفاتها البديعة ونقوشاتها الأنيقة وجمال بنائها وعلو وقوة وشموخ أعمدتها وعقودها وخرساناتها الهائلة تضع الزائر أمام العديد من الأسئلة الهامة عن الوسائل والأدوات والإمكانات والكفاءة البشرية والقدرات الخارقة التي نجحت في انشائها بهذا الجمال الآسر، فقد بنيت في عام٧٦٧ م في عهد الامبراطورية الرومانية وشهدت توسعات واضافات وصيانات على فترات مختلفة وهي تشكل بحق فخر ومجد مدينة سالزبورغ وما زالت تؤدي رسالتها الدينية ولا تزال وستظل واحدة من اهم معالم المدينة القديمة واثارها التاريخية المهيبة .كانت الأفواج السياحية النشطة التي تمثل مختلف دول العالم وتنتمي الى ثقافات وحضارات متعددة تتحرك مع مرشديها السياحيين بين معالم المدينة في حركة وداع واستقبال معبرة في اعدادها الوفيرة عن اهمية السياحة ودورها في تعزيز موارد الدول وتحقيق التنمية الاقتصادية وتحريك مئات الأوردة والأنشطة فيها وتوفيرها لعدد كبير من الفرص الوظيفية، وكيف تسعى وتجتهد دول العالم اليوم في تعزيز وتوظيف واستثمار هذا القطاع وتهيئة البنية التحتية وتطويرها والتسويق والترويج لمعالمها واثارها وتقديم حزم من البرامج والمقومات التي ترضي اذواق السياح وتشعرهم بالإثارة والتشويق والمتعة والانجذاب واشراكهم في الدعاية ... وهذا ما يجب أن نستفيد منه فنتقدم بكل قوة وثقة إلى عالم الاستثمار في هذا القطاع الحيوي والواعد والمتجدد والاستفادة من تجارب الدول الرائدة والناجحة في السياحة.
يعد منجم الملح في بلدة هالين بسالزبورج واحدا من اقدم المناجم التي تنتج هذه الثروة في العالم، حيث اكتشف الصيادون الينابيع الجبلية المالحة قبل اكثر من ٢٥٠ مليون سنة والتي يظهر انها كانت بقايا لبحر قديم يغمر المنطقة قبل ملايين السنين، وبدأ في استخراج الملح منها في عهد سلالة السلتيين، وبعد قرون من هذا التاريخ سيطر الأساقفة وحكام سالزبورج على إنتاج وتجارة الملح الذي در عليهم أموالا طائلة كانت سببا في ثرائهم وازدهار المدينة وانتعاش اقتصادها وأدى إلى نشاط تجارتها واسواقها وتقدمها وبناء سالزبورج التي تعني مدينة الملح بالنمط المعماري الفريد الذي تقدمت الإشارة اليه، تم تحويل مادة الملح الى التصنيع وخاصة في مجال البلاستيك والتصدير الى دول خارج النمسا قبل ١٦٠٠ سنة، بلغ حجم الإنتاج مليون و٣٠٠ طن بعدما كان لا يتجاوز ٨٠٠ الف طن . يتم استثمار المنجم اليوم الى جانب انتاجه الوفير من مادة الملح في خدمة قطاع السياحة وتنشيطها باعتباره معلما مهما من معالم سالزبورج، حيث تصل قيمة تذكرة السائح ١٤ يورو . في جولة مهمة وممتعة تتبع مسار ومراحل العمل في المنجم عبر التاريخ القديم انطلقنا في نفق يمتد لمئات الامتار يحملنا قطار كهربائي مفتوح، وفي المحطة الثانية نقلتنا زلاجات خشبية الى اعماق تزيد عن مائتي متر حيث مناطق العمل، وفي مرحلة ثالثة اخذتنا سفينة صغيرة في بحيرة
ملحية نموذجية تعتبر واحدة من مئات البحيرات المشابهة، اخذنا المرشد السياحي في جولة عبر الانفاق التي يصل طولها مجتمعة الى حوالي ٦٥ كيلو مترا للوصول الى حوالي تسع طبقات افقية تحت الأرض يدخل بعضها الى الأراضي الألمانية في نقاط يعرف بها علما البلدين، نصبت على جنبات الانفاق شاشات تلفزة تعرض لتاريخ المنجم ومراحل تطوره والصراع الألماني النمساوي للاستيلاء عليه وتاريخ توقيع البلدين اتفاقية تسمح للنمسا بالحصول على حق انتاج الملح في الأراضي الألمانية . في يوم مشمس معتدل طقسه، منعش هواءه، امتلأ القارب الكهربائي بالسياح الذين غمرتهم الاثارة وحب الاكتشاف واسكرتهم نشوة المكان وسلبت ألبابهم طبيعته الخلابة وفرادة الجمال التي تتكشف تدريجيا على طول المساحة التي تشكلها بحيرة الملك التي تعد أنقى واعمق بحيرة في بافاريا اذ يصل عمقها الى ما يقارب الـ ٢٠٠ مترا، وتمتد بين الجبال الشاهقة التي تعتمر قممها الغمام وتتشرب رحيق الشلالات المنهمرة من عليائها في مشهد بانورامي لا يضاهى . يتم نقل السياح الى الضفة المقابلة في قوارب كهربائية صديقة للبيئة بدأ العمل فيها في ١٩٠٩ م، في رحلة العودة كانت طوابير السياح تمتد لأكثر من ١٠٠ متر في شهر يعد من اضعف الفترات السياحية، فكيف تبدو الصورة إذن في فترات الاقبال والنشاط ؟ لذلك يلعب القطاع السياحي دورا مهما في تعزيز الموارد، وتوجيه كل معلم سياحي او تاريخي او معماري لانعاش العديد من الأنشطة والأوردة الاقتصادية الأخرى وتوفير فرص للباحثين عن العمل، فعلى ضفاف هذه البحيرة نشطت حركة القوارب واقيمت المحلات التجارية التي تعرض المشغولات والحرف التقليدية والمطاعم والمقاهي المتنوعة والنزل والفنادق التي تخدم السياح. بمحض الصدفة اكتشفنا أن بحيرة الملك تقع ضمن الأراضي الألمانية، وليست تابعة للمناطق النمساوية، ففي هذا التطواف كنا نغادر الأراضي الألمانية وتستقبلنا المناطق النمساوية ونودع ايطاليا، ونشق طريقنا بين هذه الدول أكثر من مرة بالسيارة التي استأجرناها في فترة اقامتنا التي بلغت الأسبوعين تقريبا - ويقودها الأخ والصديق حافظ المسكري بكل ثقة واقتدار تعبران عن دراية وفهم للمناطق والبلدان وطرقها وقوانينها - فلا نشعر باجتياز الحدود وكأننا في بلد جغرافي واحد فلا بوابات حدودية يقف أمامها البشر طوابير ينتابهم القلق والضغط النفسي والشعور اللاإنساني أحيانا ولا شرطة تدقق في الجوازات وتشكك في الوجوه وتحقق وتفتش السيارات، صورة معبرة لا تحتاج لتعليق تعكس معاني ودلالات وقوة الوحدة والتعاون بين الدول التي تنتمي إلى منطقة الاتحاد الأوروبي وكيف يستفاد منها في انعاش الاقتصاديات المنتمية اليه وتعزيز التبادل التجاري وتنشيط السياحة وراحة واسعاد المجتمعات .في جميع منازل النمسا ومرافقها ومنشآتها يتم التخلص من القمامة عبر تعبئتها في أكياس وحاويات خاصة وفقا لتصنيفها : ورق، بلاستيك، المنيوم، حديد، الخ وحملها إلى منافذ موزعة ومعروفة في القرى والأرياف والمناطق السكنية والمدن وذلك لإعادة تدويرها من جديد، لهذا السبب لم نشاهد عمال نظافة في الشوارع، كذلك يحظر توزيع الأكياس البلاستيكية في المحلات التجارية، إذ على المتسوقين احضار أكياس قماشية لحمل البضائع المشتراة، وتلزم هذه المحلات من جهة أخرى باستعادة المواد الصلبة وإعادة تدويرها حفاظا على البيئة من التلوث، وبسبب القوانين الصارمة والآليات الدقيقة والوعي المجتمعي تتميز المدن والأراضي النمساوية ومعظم البلدان الأوروبية بالنظافة والجمال والنظام، درجة أن المناطق المخصصة لحاويات القمامة لا تفوح منها أية روائح كريهة ولا تفيض من جوانبها السوائل والمخلفات، وليتنا نستفيد من هذه النماذج وننقلها ونطبقها من خلال زيارات الكثير من المسئولين والأفراد في مهام عمل ومشاركات رسمية ودراسة وسياحة إلى مختلف بلدان ومناطق العالم المتقدم ... للتعامل مع المخلفات والقمامة والحفاظ على البيئة ونظافة الأماكن العامة .

[email protected]