الاحتكارات الأجنبية وتحرير التجارة وحقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع والإغراق بالمستورد وضعف الأبحاث المحلية أهم معوقات نمو صناعة الدواء بالوطن العربي.

ضرورة إطلاق تكتلات لشركات تصنيع الدواء العربي

خطورة الارتفاعات القياسية في أسعار الأدوية المستوردة

مقدمة:
تبدو صناعة الدواء في العالم من الصناعات الاستراتيجية التي لا غنى عنها لصحة الشعوب وتداويها وحياتها وهي صناعة مربحة جدًا حيث يبلغ حجمها تريليون دولار وتبلغ حصة أكبر عشر شركات عقاقير طبية في العالم من هذه المبيعات 429 مليار دولار من بينها خمس شركات أميركية.

ورغم أن المنطقة العربية تعد من أكبر أسواق المنطقة استهلاكا في العالم فإن إمكانياتها لإنتاج الدواء لا تزال هزيلة بالمقارنة بالكميات الضخمة التي تستوردها . وتطمح شركات الأدوية الكبرى إلى الاستثمار في هذا القطاع في العالم العربي سواء من خلال تأسيس فروع لشركاتها الأم في المنطقة أو بالاستحواذ على شركات وطنية.
// سوق ضخم
نتيجة انتشار الأوبئة والأمراض وموسمية بعضها في العالم خاصة البلدان النامية والناشئة بلغ حجم مبيعات سوق الدواء في العالم قرابة التريليون دولار، وتستحوذ الشركات الأميركية على 30% منها والشركات الأوروبية على 30% واليابانية على 21% والباقي موزع على بقية دول العالم. ومن الغريب أن 80 % من الأدوية في المنطقة العربية هي مستوردة من الخارج بينما الباقي تصنع في المصانع العربية وحتى التي تصنع في المصانع الوطنية تكون المادة الخام مستوردة لذلك فإن أسعار الدواء دائمًا ما تكون تحت رحمة الشركات العالمية وتقلبات أسعار الصرف.
وتعد دولة الإمارات العربية المتحدة أكثر دول الخليج استهلاكا للدواء وتعرف أسعار الأدوية في الخليج بأنها ملتهبة ويعود ذلك لقلة عدد مصانع تصنيع الأدوية في المنطقة مقارنة بحجم الاستهلاك كما أن عملات الخليج مرتبطة بالدولار لذا فالأسعار مرهونة بسعر الصرف وتستورد دول الخليج 80 % من الأدوية من أوروبا ويشتكي سكان الخليج من ارتفاع أسعار الأدوية نتيجة ارتفاع أسعار استيرادها خاصة المادة الخام الخاصة بالأدوية.
وتبين الدراسات أن الدول العربية تنتج ماقيمته نحو 11 مليار دولار من أدوية مختلفة أي ما نسبته 3% من سوق الدواء في العالم ويبلغ معدل انفاق المواطن العربي 40 دولارًا سنويًا على الدواء مقابل 600 دولار للفرد الأوروبي لكن المعضلة تبقي في نسبة هذا الإنفاق إلى دخل المواطن فالفرد العربي دخله أقل كثيرا من نظيره الأجنبي.
وبلغت قيمة سوق الأدوية في دول مجلس التعاون 10.1 مليار دولار وتأتي المملكة العربية السعودية على رأس دول المجلس بحجم سوق أدوية يبلغ 6.3 مليارات دولار وتحل دولة الإمارات ثانية ودولة الكويت ثالثة . وتصل قيمة الأدوية المستوردة في دول الخليج إلى 9.5 مليار دولار سنوياً بنسبة 90% من الاستهلاك المحلي حيث تشير الدراسات إلى أن واردات الدول العربية من الأدوية ستستمر خصوصاً من المنتجات المبتكرة وذات القيمة المضافة العالية.
//تحديات هائلة
ورغم رغبة وزارات الصحة وهيئات الصيدلة العربية في احتواء نسب استيراد الأدوية بمنتجات عربية إلا أن تقنيات الصناعة والمواد الخام وكفاءة المعامل والمصانع تبقي في صالح الشركات الغربية والأجنبية سواء بشكل مباشر باستيراد الدواء أو بشكل غير مباشر بشراء المواد الخام والعلامات التجارية وإعطاء تراخيص لشركات الأدوية الأوروبية والأميركية للإنتاج على ارض عربية.
ولا تزال صناعة الدواء العربية لا ترقى لمستوى الصناعة الأجنبية إذ تعاني من مشاكل أهمها افتقار الوطن العربي لمراكز الأبحاث والتطوير التي من خلالها يتم تصنيع المادة الخام واكتشاف أمصال جديدة للأمراض والأمر الآخر الاعتماد على الأدوية الأجنبية وعدم تشجيع مصانع الأدوية الوطنية بالشكل المناسب الذي يجعلها تنافس الأجنبي وتتكامل مع مصانع عربية أخرى فضلاً عن ظهور موجات من أشكال الاحتكار والاستحواذ من مصانع الأدوية الأجنبية للمصانع العربية المحلية بهدف توسيع أسواق تصريفها في المنطقة خاصة بالخليج مما يجعل المواطنين يتكبدون مشاق دفع أثمان باهظة في الأدوية خاصة للأمراض المزمنة .
لذلك من الضروري وضع تشريعات خاصة بالدواء العربي يوحد آلياته ويحميه من الغزو الخارجي الذي يتمتع بكل المقومات التي تمكنه من السيطرة على مجريات السوق كما أنه لا بد من وضع قوانين محددة لتداول الدواء الأجنبي داخل البلاد العربية فلا معنى لإغراق الأسواق العربية المحلية بالدواء الأجنبي ما يهدد صناعة الدواء الوطنية .
ومن الضروري إقامة مراكز أبحاث الدواء لمجاراة التقدم العلمي في العالم وربطها بالجامعات ومصانع الأدوية ودعمها برأس المال الكافي الذي يؤهلها للقيام بدورها فهذا سيمكن مصانع الأدوية الوطنية من الاعتماد على نفسها وإنتاج دواء محلي. والجدير بالذكر أن نسبة إنفاق العالم العربي على البحوث لا تتجاوز 2% وهو ما أدى إلى تدهور أنشطة البحوث على اختلاف تخصصاتها ومجالاتها خاصة بالنسبة لصناعات الدواء والأمصال واللقاحات.
// تجارب واعدة
باتت التجربة الإماراتية تجربة مبشرة بالخير في صناعة الدواء عربيا فرغم التحديات هناك تجارب تمهد بوجود عربي في تلك الصناعة المهمة وباتت للإمارات اليوم مصانع للأدوية تنافس أعرق المصانع عالميا رغم عمرها القصير إلا أنها استطاعت أن تحجز لها مقعداً على خريطة العالم فعدد المصانع في الإمارات وصل ل16 مصنعاً للأدوية ينتج 1000 صنف دوائي مبتكر ومثيل. ويتوقع الارتفاع إلى 34 مصنعاً عام 2020 وهناك 47 شركة وطنية إماراتية في هذا المجال.
كما أن الأردن دخلت بقوة في مجالات الصناعات الدوائية ببناء صروح وطنية متكاملة ويتركز إنتاجها على مستحضرات الحبوب والكبسولات والأمبيولات والأمصال والمضادات الحيوية وزجاجات الشراب والقطرات والكريمات والمراهم.
وقد طالب خبراء صناعة الدواء في مصر والدول العربية بضرورة إيجاد آلية للتنسيق بين الشركات العربية لمواجهة الاحتكارات العالمية وسيطرة الشركات الكبرى. وأكدوا انه رغم تلاشي المخاوف على مستقبل الشركات بعد التطبيق الفعلي لاتفاقية التربس في إطار اتفاقية التجارة العالمية إلا أن صناعة الدواء ما زال أمامها تحدي الحفاظ على السعر الاجتماعي للأدوية الجماهيرية والتي تعالج الأمراض المنتشرة مثل أمراض القلب والجهاز الهضمي والكبد وأدوية الأورام وأدوية الأطفال.
وأثار خبراء الصناعة مشاكل حول عدم وجود تعاون عربي في الإنتاج وان خمس دول عربية فقط هي المصدرة وان الإنتاج يعادل 47 بالمائة من الاستهلاك وان المستقبل للكيانات الكبرى فصناعة الدواء العربية تعيش الآن مرحلة ما بعد تطبيق اتفاقية التجارة العالمية ورغم التحذيرات والدراسات التي رصدت الآثار السلبية التي ستنعكس على الصناعة مع بداية التطبيق إلا أن الصناعة قد عاشت وتحدت.
ومع ذلك فان الخبراء ما زالوا يحذرون من أن التحدي أمام صناعة الدواء هو الصمود وتقديم دواء ذي سعر اجتماعي يجعل المريض يسعى إلى المنتج المحلي ذي الكفاءة العلاجية والملائم اقتصادياً ومن هنا تستمر الشركات الوطنية في الفوز بثقة المستهلك العربي وتصمد أمام غزو الدواء الأجنبي المستورد وهذه المعادلة تحتاج إلى جهد من الشركات ومن الحكومات كي تفوز برضا المواطن العربي ويصبح الدواء احد أهم أشكال التعاون بين الصناعات العربية في السنوات القادمة.
// حقائق التصنيع
الحقائق حول صناعة الدواء العربي كما تقول الدكتورة جميلة موسى الخبيرة بمركز المعلومات الدوائية العربي تشير إلى أن هذه الصناعة تعد من أهم الصناعات في عدد من الدول العربية وما زال الدواء المنتج محلياً يحظى برضا المستهلك بنسبة عالية ويلاءم احتياجاته الاقتصادية وان المخاوف التي دارت خلال السنوات الماضية عن تطبيق اتفاقية الجات قد تلاشت لكن ما زال التحدي قائماً للصمود أمام الشركات العالمية المحتكرة للصناعة وان الاتحاد العربي لمنتجي الدواء قد دعا إلى إنشاء آليات للتعاون بين شركات الإنتاج العربية والى إنشاء شركات مشتركة عربية تخصص كل منها في تحقيق الريادة في أصناف معينة وذلك من خلال مشروعات مشتركة.
وتضيف الدكتورة جميلة: أن الدراسات تؤكد أن خمس دول عربية فقط تقوم بتصدير الدواء هي الأردن ومصر والإمارات وسوريا ولبنان من بين 14 دولة عربية منتجة بالفعل للدواء وان صناعة الدواء لدى هذه الدول يغلب عليها شكل الشركات الصغيرة حيث حققت جميع الدول العربية عجزاً في ميزانها التجاري الدوائي فيما عدا الأردن التي تحتل المركز الأول في تصدير الدواء العربي وتجيء مصر في المركز الثاني.
وأشارت الدكتورة جميلة موسى إلى الآثار السلبية لتحرير التجارة العالمية على صناعة الدواء يمكن تجاوزها إذا اتجهت الشركات الوطنية إلى تطوير أدائها بما يجعلها تواكب التطورات المتلاحقة ومواجهة ضعف الإنفاق في مجال البحث والتطوير وضرورة قيام مراكز الدواء العربية بإيجاد دور فاعل للحكومات في تطوير الصناعة والتي تحتاج إضافة دواء واحد جديد ملايين الدولارات تمثل رأسمال شركات وطنية في دولة عربية عدة. وتدعو الدكتورة جميلة موسى الى تفعيل توحيد جميع إجراءات التسجيل للدواء الجديد على المستوى العربي والتنسيق بين منتجي الدواء بهدف تكامل الإنتاج إلى جانب التنسيق في التسويق حماية للصناعة وضرورة إنشاء صندوق لدعم الدواء في كل دولة وفق قوانينها ليساهم في دعم الدواء للأفراد وفق ظروف كل دولة والمستوى المعيشي فيها.
// تحرير الدواء
حذرت دراسة لشعبة الدواء باتحاد الصناعات المصري من أن تحرير التجارة ربما لن يؤثر على إنتاجية الشركات لكنه سيدفع بالأسعار إلى الارتفاع أكثر مما عليه خاصة مع إنتاج أدوية جديدة للأوبئة وان حجم الخسائر التي ستقع على الدول النامية قد تصل إلى 250 مليار دولار تمثل عائدات تحققها الشركات المحتكرة.
ويؤكد في هذا الدكتور محمد رؤوف الخبير بالهيئة القومية للوقاية الدوائية المصرية أن صناعة الدواء تواجه مصاعب كبيرة من جانب الشركات العالمية الكبرى حتى لا تترك فرصة كي تنافسها أخرى محلية في الحصول على جزء من السوق العربي والعالمي وتقوم بإنتاج الأدوية التي انتهت براءات اختراعها وهو المجال المتاح حالياً دون مشاكل.
ويرى الدكتور جلال غراب رئيس الشركة المصرية القابضة للدواء أن الصناعة الدوائية الوطنية العربية لن تتوقف لأي أسباب تأثرا بتحرير التجارة حاليا فهي تقدم رسالتها بنفس الكفاءة ويرى أن تأثيرها محدوداً على أصناف الدواء التي سيتم اكتشافها حديثاً للأوبئة والأمراض المزمنة وغيرها لذا فان الآثار السلبية الضخمة لتحرير التجارة على صناعة الدواء كانت مع فحص براءات الاختراع الدوائية لتحديد الأصناف التي تطبق عليها حق الملكية الفكرية لتبدأ عندها الأسعار في الارتفاع للأصناف الجديدة. وأوضح رئيس الشركة المصرية القابضة أن هذه الظروف توجد في مواجهتها عدة إجراءات لمواجهة أثارها منها تشكيل لجان مراجعة أسعار المنتجات والتأكد من تاريخ براءات الاختراع للأدوية التي ترتفع أسعارها واستخدام ما يتعلق بحق الترخيص الإخباري لأي دواء جديد وفق أهداف اجتماعية وهو ما يمكن استخدامه في حالة تعنت أصحاب براءات الاختراع في التسعير أو رفض الإنتاج للصنف ويكون في حالة انتشار الأوبئة وهو ما يمكن السلطة المختصة من إنتاج الدواء دون موافقة صاحب براءة الاختراع. كذلك يوجد حق الاستيراد الموازي بقيام صاحب الدواء الجديد بالبيع بامتيازات معينة لدولة أخرى فيكون الحق لأي دولة بأن تستورد بنفس الامتيازات دون الرجوع إليه.
// إطلاق التكتلات
يدعو في نفس الاتجاه الدكتور ثروت باسيلي رئيس شعبة صناعة الدواء باتحاد الصناعات المصرية إلى أن صناعة الدواء تتطور من خلال جهود شركات عالمية وليس جهود شركات فردية أو دولة محددة وان التطوير هو أساس الريادة في تلك الصناعة حيث يوجد عدد 10 شركات عالمية هي الرائدة في الأبحاث وتقديم الدواء الجديد وأن رأسمال الواحدة منها هو 50 مليار دولار وتتركز في أميركا واليابان وسويسرا وفرنسا وألمانيا وانجلترا. ورغم التحديات التي تواجه صناعة الدواء مع تحرير التجارة فان خبراء الصناعة يؤكدون على أن المستقبل سيكون للصناعة ولكن في إطار التعاون سواء على المستوى العربي والإقليمي خاصة مع اتفاقية التجارة العربية وإلغاء الجمارك بين 17 دولة عربية وهنا يكون الحديث عن الاندماج للشركات وإنشاء الكيانات الكبرى وتقديم دواء ذي السعر الاجتماعي .
ويطالب الدكتور احمد عطية سعدة عميد كلية الصيدلة جامعة القاهرة الشركات الوطنية بأن تسعى إلى الاندماج في كيانات كبيرة توفر الاستثمارات والقاعدة العلمية لإنتاج دواء ينافس في الجودة والسعر حيث أن صناعة الدواء تحتاج توافر تكتلات ضخمة ومواجه المنافسة والاحتكار من الشركات العالمية ولذا فان صناعة الدواء في الدول العربية لن يتوافر لها الريادة والتصدير على الأقل بين الدول العربية إلا بالدخول في كيانات كبيرة لان تكاليف الإنتاج باهظة تصل إلى عدة ملايين لإنتاج دواء جديد وقد قامت الشركات العالمية بالدخول في الاندماج فيما بينها.
ويرى أن صناعة الدواء في الدول العربية هي صناعة تجميعية ومع ذلك توفر احتياجات المواطن بنسبة 70 بالمائة من الأصناف وهذا مجال جيد يجب التوسع فيه حيث لا أهمية للاختراعات الجديدة في ظل الظروف العالمية وإنما الأهم هو إنتاج الأصناف المسجلة بالفعل بسعر يرضي المواطن وسيحدث استمرار للصناعة ولكن السعر ربما تأثر تبعاً لارتفاع أسعار الخامات.
الخلاصة إن معيار التفاؤل أو التشاؤم على مستقبل هذه الصناعة عربيا يعود إلى معدل قدرة شركات الدواء على البدء في نظام إداري وعلمي للمواجهة والتحدي من اجل الصمود في المستقبل وإذا لم تستطع ستتراجع الصناعة ولن تحصل على تغطية الاستهلاك أو التصدير حتى على المستوى العربي. وإن الخطورة التي يجب أن تدركها الشركات العربية هو ضرورة التطور لمواجهة القوى الكبرى والمؤسسات العالمية في أسواق الأدوية في ضوء تحرير التجارة وحقوق الملكية الفكرية والاختراعات . وهنا فان السوق العربي يتابع ويشاهد هذا ولن يكون أمامه إلا إيجاد نهضة صناعية دوائية كبرى ذات استثمارات ضخمة في شكل شركات دواء تعبر الدول العربية ويمكنها الفوز بسياسات اقتصادية عربية ميسرة وأيضا يمكنها المنافسة والفوز باتفاقيات إنتاجية مع الشركات الكبرى لتقدم الدواء للمواطن العربي بكفاءة علمية وبسعر يلقى الرضا من المستويات الشعبية ولكن نحتاج لمجهود ضخم حتى نصل إلى تلك الصورة.

إعداد: أيمن حسين