[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"] د. محمد الدعمي[/author]
بواعث هذه الهالة السلبية من المعاني التي تحيط بلفظي التأمرك والأمركة إنما تنبع من شعور العرب والمسلمين عامة بنوع من التفوق والشعور بالعلوية التي تستنكر الوافد الأميركي الغريب فتخصه بنظرة دونية لا ريب فيها.

شاع لفظ "متأمرك" عبر مجتمعات الشرق الأوسط والدول العربية عامة على سبيل السخرية والاستهزاء بكل ما تشم منه رائحة الاقتداء بالظواهر الأميركية من ملابس وعادات حياة، بل وحتى طرائق تفكير وتنشئة وسلوك. ودليل ذلك أن اللفظ أعلاه إنما كان ينطوي على دلالة دونية تستأهل الملاحظة والسخرية والاستهانة أحيانًا. وقد جسدت شخصية "حسون الأميركي" البغدادية الشهيرة إبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي هذا البعد السلبي للتوظيف العربي والإسلامي للفظ.
وبواعث هذه الهالة السلبية من المعاني التي تحيط بلفظي التأمرك والأمركة إنما تنبع من شعور العرب والمسلمين عامة بنوع من التفوق والشعور بالعلوية التي تستنكر الوافد الأميركي الغريب فتخصه بنظرة دونية لا ريب فيها.
ولا بأس بهذا الاعتزاز المحلي بـ"المحلي"، درجة النأي بالنفس عن الطارئ غير المحبذ والوافد الغريب، بل وبدونية مباشرته، حيث بلغت قصص المحاكين لكل ما هو أميركي، من خريجي الجامعات والمدارس الأميركية حدًّا ملحوظًا من التداول الواسع بوصفه نوعًا من اللطائف أو "النكات"، خاصة عندما ينطوي تشبث الخريج المتأمرك بمحاكاة البيئة التي خرجته على شيء من عدم احترام المحلي والتقليدي، بل وعلى إدانتهما، الأمر الذي يستفز المحافظين في مجتمعاتنا حتى تصل بهم الأمور حدود الاصطدام بالمتأمرك وإيداعه التوقيف والسجن، بسبب شدخه الذوق العام.
ربما هذا هو ما كمن وراء قرارات سابقة للحكومة العراقية (على سبعينيات القرن العشرين) بمنع الملابس المزركشة والسراويل الضيقة والشعر الطويل بالنسبة للذكور من العامة، ومنع الأثواب والتنورات القصيرة والمكياجات المبالغ بها بالنسبة للإناث. وقد وصل التحامل على التأمرك في العراق آنذاك حد سن القوانين الرادعة وإطلاق قوة شرطة متخصصة (شرطة الآداب) برصد الممنوعات أعلاه ومعاقبتها على نحو علني (أي في الشارع وأمام المارة): إذ عوقب أصحاب الشعر الطويل بقصه أمام المارة بطريقة مهينة، زيادة على خص الصبايا باستعمال المقص لتمزيق أثوابهن المخالفة، ثم جاء الأنكى من هذا كله، وأقصد به طلاء سيقانهن وأذرعهن بالأصباغ (أمام العامة كذلك).
إلا أن للمرء أن يلاحظ بأن ما سبق ذكره عن المجتمع العراقي وسواه من المجتمعات المحافظة عبر الشرق الأوسط لم يزد عن كراهية عمياء للتأمرك، ربما كراهية بجذور سياسية. ودليل ما أذهب إليه في هذا السياق هو أن التأمرك Americanization يعامل اليوم كحركة أو كموجة اجتماعية عبر مجتمعات العالم الثالث خاصة، درجة تأسيس جمعيات خاصة بـ"المتأمركين" الذين يجدون في صفة "التأمرك" وشيجة لا يمكن تجاوزها وكأنهم يتشبثون بها كما يتمسك المرء بقبيلته أو بقومه. ولا تبخل منظمات أميركية متخصصة سخية بالتمويل برعاية المتأمركين والتأمرك عبر مجتمعات العالم، باعتبار "التأمرك" حركة ثقافية وحضارية تقدمية مستوحاة من التقاليد الاجتماعية والثقافية الأميركية التي يراد رعايتها ومحاكاتها وإشاعتهما عبر العالم من خلال أنواع الأنشطة الجماعية كعقد المؤتمرات وتأسيس الجمعيات والروابط الثقافية المختصة بالمتأمركين وقضاياهم، الأمر الذي يؤكد أن التوسع الأميركي عبر العالم لا يجري من خلال بناء "امبراطورية ضم"، وإنما من خلال بناء امبراطورية توسع وضم ثقافي تعتمد المراكز الثقافية والسينما والدعاية والدبلوماسية وسائل أساسية لبنائها.