يكتب محمد حياوي عن فكرة المدينة المُستعادة، من خلال سردية تخيّلها، حيث تتبدى هذه السردية وكأنها مغامرة قصدية، أراد من خلالها البطل/ الراوي استعادة مدينته الغائبة، فهو يتمثل وضع أحداثها في سياقٍ محكي، له قالبه التوصيفي، وله ـ أيضاً - وظائف السيرة والمراقبة، وتدعيم المبنى الواقعي بكثير من الإيهام، بقصد البحث في سرائر الأمكنة والشخصيات، وباتّجاه التعرّف على التحولات العميقة التي استغرقت الواقع العراقي، عبر معاينةِ ما هو علاماتي في هذا الواقع، في تحولاته الحادثة، وفي تمثلاتها عند الشخصيات والمكان والزمن والحدث..
في روايته الأخيرة "خان الشّابندر" الصادرة عن دار الآداب/ بيروت/ 2015 يأخذنا حيّاوي الى تلك المدينة المتخيّلة، بوصفها مدينة (الأضحيات) إذ تتبدى عبر هذه الرحلة كشوفات لافتة، ومشاهدات صادمة ومفارقة لمظاهر الانسحاق الاجتماعي، والاخلاقي، حيث تبدو وكأنها الأكثر تعبيرا عن فجيعتها، وعن رثاثة وجودها وهي تعيش تشوهات الاستبداد والحرب والاحتلال...
الراوي البطل هو صاحب الرحلة والكاميرا والوثيقة، يسرد رؤيته للوقائع، عبر المشاهدة والاستعادة والتخيّل، إذ يقترح له سلسلة من الحركات/ الوظائف التي تساعده على صياغة الحكاية، فهو يستعيدها عبر اليوميات، وعبر ما تهجس به الشخصيات، مثلما يصطنع للسياق الروائي أمكنة/ ملاذات لها رائحة المدينة القديمة، ولها الحاضر المكسو بالخراب والمحو، حيث تتحول منطقة (خان الشابندر في الحيدرخانة) إلى مجال بؤري (مركّب) لسرد الأحداث والوقائع، وللحفر في متون حكايات متعددة، تبدأ من رحلة البطل في أزقتها، وسرائر عوالمها، وتعرّفه على شخصياتها الغامضة والمُدهشة، وتنتهي عند هواجس ذاكرته، وايهاماته التي كان يتخيّل عبر وجودها أمكنة وشخصيات وأحداثا..
بيت الدعارة الذي تُديره "أمّ صبيح" مكان علاماتي، أكثر مما هو واقعي، إذ هو علامة للفضاء (التعويضي، الاستعادي) الذي يقترحه الروائي، مثلما هو علامة للمكان السردي، (الأليف) و(المعادي) في آن معا، فهو يحمل شيفرة الخطيئة، مثلما يحمل علامة وجود صبياني للشخصيات الأضحوية في الرواية، ضحايا الاستبداد الذكوري والسياسي، والاحتلال والارهاب..
البُعد العلاماتي للمكان السردي له تأثيره الواضح على صياغة حركة الشخصيات (المتخيّلة) في المجرى السردي، إذ تتموضع حول الحدث الرئيس/ حدث الرحلة التي يقوم بها الراوي "علي موحان" الى بيت "أم صبيح"، فضلا عن تأثيره على صياغة تمثلاته السردية، وفي بنية توازيها الزمني بين الحاضر والماضي، فالروائي يروي في الرحلة هواجسه، بوصفها مشاهدات، ويكشف من خلالها عن (رواة داخليين) يعترفون له، ويكشفون عن عوالمهم الخبيئة، لكنهم يظلّون عالقين بذاكرة موشومة بالفقد، الخوف والهزائم الداخلية..

سردية الشخصية المأزومة..
تسريد أزمة الشخصية في الرواية تعكس وعي الروائي لأزمة علاقتها بالمكان، وأنّ التعاطي السردي مع هذه الأزمات يدفع باتّجاه جعل تلك الشخصية تملك نوعاً من الشهادة، إذ يتوازى حضورها السردي المتخيّل مع حضورها الواقعي، وكأن كلا الحضورين يقومان على تحفيز وظيفة التعبير عن رثاثة المكان والزمان، وعلى دلاتهما في الكشف عن محنة ما تركته الحرب والاحتلال من خراب وخديعة وفوضى...
إيهامية الواقع تضع ذاكرة السارد/ الراوي أمام لعبة الكشف عن هوية تلك الشخصيات المأزومة، فبقدر ما تنوء به تلك الشخصيات من خيبات شخصية، فإنها تكشف أيضا عن خيبات عامّة، يقترح لها الروائي شواهد مكانية، وصراعات، وفقدانات، لها تعالقاتها مع ذاكرة الذكورة المغتصبة، ومع ذاكرة السلطة والاستبداد، والاحتلال، ومع جماعة "مُلّا جليل" التي فرضت وجودها العصابي على المكان والجسد..
سردية الفقد هي الحيّز الذي يسبغ علامته على الشخصيات، فـ "ضويَّة" تفقد وجودها الطفلي وبكارتها الجسدية من قبل أبيها (كل ما في القصة أن أبي نام معي عندما كنت في الرابعة عشرة) ص 16 و"هند" تفقد زوجها القتيل من قبل الحرس الجمهوري خلال أحداث الانتفاضة، مثلما تفقد انوثتها ووجودها بعد اعتقالها من قبل الجماعات بتهمة العمل مع قوات الاحتلال، و"زينب بائعة الكعك" تفقد أمها في أحداث الانتفاضة، و"أبو حسنين المصري" يفقد ولده في الحرب العراقية الايرانية، و"نيفين" تفقد زوجها المهاجر الى استراليا، و"سالم محمد حسين" يستعيد الروائي قصة فقده عبر ما يشبه الواقعية السحرية، حيث يُحفّز (المتخيَّل السردي) غريزة تعرية تاريخ الاستبداد والحرب والتعرّف على محنة الشخصية العراقية وهي تعيش رعبها في الفقد الوجودي ".. كان لي صديق حميم اسمه سالم محمد حسين، لكنه أُعدم قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، تمرد على الخدمة العسكرية وظل هارباً ومتخفياً سنوات طويلة، حتى ألقي القبض عليه ذات ليلة، وسيق الى سجن أبي غريب.. وهناك أعدموه رمياً بالرصاص" ص44.

سردية الدليل..
تمثلات الفعل السردي في الرواية تبدأ من وظائفية الدليل، ومن علاقته بالحدث وبالشخصية الرئيسة بوصفه تعبيراً عن فقدان المدينة لذاكرتها.. تعدد الإدلاء يضعنا أمام غموض هذه اللعبة، إذ يقترح الروائي لهذا التموضع وظيفة التعرّف والكشف والمعالجة من جانب، وللكشف عما هو غائر في سرائر الأمكنة الواقعية والمتخيّلة من جانب آخر، فالصديق هو الدليل الأوّل الذي يقوده في الرحلة الأولى عبر خرائب الأمكنة الى بيت "أم صبيح"، و"مجر عمارة" هو الدليل الثاني الذي يقوده في رحلة المتاهة للعودة الى بيت "أم صبيح"، وكأن هذا التوازي بين الرحلة الواقعية والرحلة المتخيّلة هو تفسير لحركة السرد وتشعباته، وللكشف أيضاً عن استغراقات البطل/ الراوي النفسية، مثلما هي وظيفة الدليل الثالث "زينب" التي قادت البطل عبر الأزقة الضيقة إلى شارع المتنبي، للتعرّف على تفاصيل منطقة الحيدرخانة، فضلا عن الدليل الايهامي الذي جسدته شخصية الصديق الغائب "سالم محمد حسين" الذي يقوده استيهامياً إلى غرفته القديمة، وحتى "نيفين" تبدو وكأنها دليل نفسي، لها وظيفة (بروبية) ساندة عبر رعاية البطل وتتبع حركته..
سردنة الدليل في الرواية تقابلها وظيفة البحث عن هوية المدينة الغائبة، التي يحاول البطل التعرّف عليها وسط الخراب والعنف ".. لقد غبت عن بغداد أكثر من خمسة وعشرين عاما.. المدينة تغيرت وملامحها طُمست، والناس غير الناس" ص88.
هذا التقابل بين وظيفة الدليل ووظيفة الباحث تستفز ذاكرة القارئ للعودة به إلى سياق وظائفية فلاديمير بروب، حيث ترتبط حركة الشخصية بالوظيفة، وبقصديّة ما تحمله من بُعدٍ علاماتي، للتوثيق أو الأرخنة، أو للتعرّف، بما فيها الحركة المتخيّلة للشخصية، أو للتعرّف على المكان المُتخيل. فالرواية لا تطرح كتابةً للسيرة، أو وظيفة (الصحفي) المعنية بتقصّي ما حدث في المكان العراقي، من تحولات مرعبة بعد الاحتلال الامريكي وسقوط النظام السياسي، على مستوى تمثلات الشخصية، أو هوية الأمكنة الغائبة، أو على مستوى الأحداث التي تستنطق الحيوات المتنوعة في الرواية، والتي تظل عامرة بذاكرة الخوف والمحو، حيث تبحث عن وجوها وهويتها عن طريق الطقوس، أو البحث عن أوهام الحريَّة، أو الخلاص، أو حتى عن وهم الجنس في (النُزل) المشبوه، ذلك الذي يتحول عند نساء الرواية إلى مكان صياني له رمزيته وسلطته..

علي حسن الفواز
باحث عراقي