[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]

”.. العم بلاتر يعمل عكس ما فعل الرجل الطيب الفرنسي جون ريميه صاحب فكرة كأس العالم، والذي كان يصرف من جيبه الخاص على اللعبة، فتحمل تكلفة صناعة أول كأس عالم حملت اسمه، وتحمل تكلفة سفر الفرق المشاركة في أول بطولة بأورجواي عام 1930م، وخاض صراعاً طويلاً مع اللجنة الأولمبية الدولية لينتزع الاعتراف الدولي ببطولة كأس العالم لتقام كل 4 سنين بالتبادل مع الدورات الأولمبية.”
ــــــــــــــــــ
بسبب اضطراري للسهر يوميًّا حتى الفجر لمشاهدة مباريات كأس العالم بالبرازيل طارت من رأسي الأفكار، ولم أستطع الكتابة في السياسة هذا الأسبوع رغم اشتعال الأحداث السياسية من حولنا في كل مكان، والتي اختلطت سخونتها بسخونة مباريات البطولة الرياضية الأشهر على مستوى العالم.
ونتيجة ارتفاع تكلفة المشاهدة المنزلية لمباريات المونديال لتصل 140ريالاً عمانيًّا، ولإحساسي بالاستغلال "ركبت دماغي" ورفضت تجديد الاشتراك، وقررت مقاطعة المونديال، ولكنني مع اقتراب مباراة الافتتاح بين البرازيل وكرواتيا ضعفت وبحثت عن أقرب مقهى يمكنني مشاهدة المباراة فيه، جلست داخل المقهى المكيف هرباً من الرطوبة وحرارة الجو، فإذا بأنفاسي تضيق ورئتي تختنق بسبب شلالات الدخان المنبعثة من فوهات الشيشة، خرجت للهواء الطلق وتحملت المعاناة صاغراً، وكلما شعرت بالحرارة والرطوبة تطبق على أنفاسي رفعت يدي للسماء ودعوت على بلاتر وعصابته، وعلى التشفير ومن يقف وراءه وعلى كل من تسبب في هذه المعاناة غير الإنسانية للغلابة ومحدودي الدخل من أمثالي، واضطرهم للـ"التسكع" على المقاهي حتى "وش الصبح" بدلاً من مشاهدة المونديال في أجواء صيفية مريحة في المنزل كما تعودنا طوال الدورات السابقة.
وأنا كائن مونديالي لم أفوت دورة لكأس العالم منذ تفتحت عيناي على الدنيا وعرفت معنى المشاهدة، خصوصاً والبطولة كانت مواكبة لإجازة الصيف؛ حيث يحلو السهر وسط الأهل والأصدقاء، وقضاء أوقات الفراغ فيما لا يضر ولكن التشفير (منه لله) أضاع بهجة المونديال، فليس من المعقول أن يجلس رجل (كبارة) مثلي مصلوباً على كرسي المقهى 6 ساعات يوميًّا ليتمكن من مشاهدة 3 مباريات بخلاف الاستراحة، والاستوديو التحليلي، لذلك اكتفيت بمشاهدة المباريات المهمة والدعاء (على من كان السبب) في حرماني من بقية المباريات.
ورغم الصراع الشديد بين الدول للظفر بحق استضافة كأس العالم في السنوات الأخيرة، إلا أن التكلفة المبالغ فيها للتنظيم؛ من بنية أساسية، ومنشآت رياضية، وميزانيات للترويج والدعاية، ترهق ميزانيات الدول المنظمة كما رأينا مؤخراً في البرازيل؛ حيث أثرت المليارات التي أنفقتها لاستضافة المونديال على خطط التنمية الاقتصادية، وبرامج الرعاية الاجتماعية والصحية وأشعلت التضخم، وتسببت في زيادة نسبة البطالة بدلاً من تقليصها ـ كما يقول معارضو الحكومة البرازيلية ـ وشاهدنا كيف اجتاحت المظاهرات مدن البرازيل تندد بتنظيم المونديال، ولم تفلح وعود الحكومة باسترداد هذه التكاليف الباهظة من مردود السياحة، وحقوق الرعاية والبث التليفزيوني التي تقتسمها مع الاتحاد الدولي للعبة (الفيفا)، الذي تحول لآلة شرهة لجني الأموال من اللعبة الشعبية؛ خصوصاً منذ تولى السويسري سيب بلاتر رئاسة الاتحاد، وتحويله كرة القدم إلى "بيزنس" تصب أرباحه في جيوب "الفيفا" واللاعبين والمدربين والإداريين والسماسرة وشركات الدعاية والإعلان العالمية، ولا مكان فيها للهواة أو الفقراء.
وفي الوقت الذي انتزعت فيه أوروبا الغنية بحكم قضائي من المحكمة الأوروبية حق البث المجاني لمباريات كأس العالم لشعوبها، نجد الفيفا (يتشطر) على فقراء إفريقيا وآسيا ويبيع حقوق البث للقنوات المشفرة مما حرم الملايين من متابعة المونديال لعجزهم عن دفع ثمن الاشتراك المبالغ فيه.
والعم بلاتر يعمل عكس ما فعل الرجل الطيب الفرنسي جون ريميه صاحب فكرة كأس العالم، والذي كان يصرف من جيبه الخاص على اللعبة، فتحمل تكلفة صناعة أول كأس عالم حملت اسمه، وتحمل تكلفة سفر الفرق المشاركة في أول بطولة بأورجواي عام 1930م، وخاض صراعاً طويلاً مع اللجنة الأولمبية الدولية لينتزع الاعتراف الدولي ببطولة كأس العالم لتقام كل 4 سنين بالتبادل مع الدورات الأولمبية.
وعقب وفاة ريميه عرفت كرة القدم (طعم الفلوس) وجاءت الانفراجة مع ظهور التليفزيون الذي أحدث طفرة كبيرة في نشر وتمويل كرة القدم عن طريق حقوق البث، وكانت البداية في كأس العالم السادسة التي استضافتها تشيلي عام 1962م، فتم تصوير المباريات بكاميرات سينمائية ليتم بثها مسجلة على شاشات التليفزيون الأوروبية بعد انتهاء المباراة بـ 48ساعة، أو حسب ظروف الطيران؛ فلم تكن تقنية نقل الصورة عبر الأقمار الصناعية قد ظهرت بعد.
وفي مونديال انجلترا عام 1966م ظهرت أجهزة تسجيل الفيديو وتقنية الإعادة لأول مرة، وفي عام 1970م حدثت النقلة الكبرى؛ عندما بثت للمرة الأولى مباريات المونديال من المكسيك عبر الأقمار الصناعية وعلى الهواء مباشرة، ولكن استفاد من هذه النقلة التكنولوجية عدد محدود من دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية لعدم امتلاك معظم دول العالم في ذلك الوقت محطات لاستقبال بث القمر الصناعي.
وفي مونديال الأرجنتين 1978م بدأ الفيفا يبيع حقوق البطولة تليفزيونيًّا ووصل السعر وقتها لـ 34 مليون دولار لكل أنحاء العالم وكان نصيب كل دولة لا يزيد على 100 ألف دولار مقابل نقل جميع مباريات المونديال، وارتفع في بطولة إسبانيا 1982م إلى 40 مليون دولار، وفي المكسيك 1986م إلى 50 مليون دولار، وفي إيطاليا 90 أصبح 75مليوناً، وفي أميركا 94 أصبح 87مليوناً، ليقفز في فرنسا 98 إلى 107 ملايين دولار لكل دول العالم إلى هنا وكانت المشاهدة المجانية مكفولة للجميع.
في مونديال 2002م بكوريا واليابان بدأ عصر الاحتكار والتشفير، بظهور شركة اشترت حقوق البث التليفزيوني مقابل مليار دولار وباعت الحقوق للقنوات الرياضية المشفرة، ولكن الشركة انهارت ولم تستطع الوفاء بالتزاماتها، ولكن الأزمة فتحت عيون (الفيفا) على الكنز المسمى بحقوق البث بعد أن قرر أن يدير عمليات البيع والتسويق والإعلانات والرعاية بنفسه دون الحاجة لوكلاء أو وسطاء وكانت بطولة 2006 بألمانيا بداية تدفق "نهر الخير" على الفيفا؛ حيث درت حقوق البث عليه ملياراً و185 مليون دولار، تضاعفت في مونديال جنوب إفريقيا لتصل إلى 3 مليارات دولار، بينما بلغت حقوق البث لمونديال البرازيل 2014 الحالي 4 مليارات دولار؛ وهذه الأرقام الفلكية التي يستأثر بها الفيفا جاءت نتيجة منطقية لتزايد الإقبال على مشاهدة مباريات كأس العالم على شاشات التليفزيون؛ فقد وصل عدد من شاهدوا كأس العالم 1990 بإيطاليا 2.6 مليار نسمة، وتابع مونديال كوريا واليابان 213 دولة أي جميع دول العالم تقريباً، ولا ندري هل يزداد عدد المتابعين للكأس الحالية أم يقل، وهل تستجيب دولة الفيفا لمناشدات الفقراء بإفريقيا وآسيا وتبحث عن حل يمكنهم من المشاهدة المجانية أو بمقابل معقول تدفعه المحطات الناقلة بدون تشفير حتى تستمر متعة كرة القدم.