[author image="http://alwatan.com/styles/images/opinion/abdalahabdelrazak.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج [/author]
لقي قرار مجلس الوزراء الأخير والخاص بإصدار قائمة تحدد للهيئة العامة لحماية المستهلك سلعا محددة ومحدودة جدا ينبغي أن تراقب تطور اسعارها دون غيرها من السلع والخدمات الرئيسية الأخرى، لقي معارضة غر مسبوقة من قبل المجتمع بينما لقي ترحيبا من التجار، وتحفظا من المتطلعين للمناصب الحكومية، وهو ـ اي القرار ـ حديث كل المجالس الخاصة والعامة دون استثناء، وليس هناك مبالغة إذا ما ذكرت احدى شبكات الاخبار والمعلومات الالكترونية عن رفض (42) الف تغريدة وعدد الريتويت (3،51) مليون ونسبة الانتشار (48،64) مليون حساب في ردة فعل اجتماعية مستاءة جدا من اقحام السلطة التنفيذية نفسها في قضية مليئة بالحمولات الاجتماعية، ومليئة بالاحتقانات، عادت بنا ذهنيا وكأننا لم نغادر مرحلة عام 2014 خاصة بعد انكشاف واقعنا التجاري الملغوم بمجموعة كبيرة من حالات الغش، بدليل الاحكام القضائية العديدة التي اصدرها قضاؤنا العماني ضد مجموعة كبرة من التجار، ولو لا هيئة حماية المستهلك ما كان لبلادنا هذا النجاح، وهذا النجاح في جوهره يحسب لها ليس من منظور قدرتها في الكشف وإنما احتوائها للمواطن وامتصاص غضبه من موجات الغلاء التي كان يستغلها التجار بسبب ودون سبب.
هل كان ينبغي أن تقحم السلطة التنفيذية نفسها في هذه القضية بتلك الكيفية التي تغل دور الهيئة بعد ما اكتسبت الهيئة صدقية عالية المستوى ،،مهنيا ،، ومصداقية بنفس الامتياز،،اجتماعيا،، وسمعة عالمية خارج الحدود ؟ وبسبب هذه الصدقية والمصداقية والسمعة أصبحت الهيئة رغم ولادتها القصيرة مقارنة بنظيراتها الاقليمية والعالمية تشكل خارطة طريق لهيئات إقليمية وعالمية، وتحصد جوائز عربية وعالمية ـ كنا قد تناولناها في مقالات سابقة - ومن المفارقة أن يحدث غل يد الهيئة في وقت يطلب من رئيسها سعادة الدكتور الكعبي الحضور للقاهرة لشرح تجربة نجاح الهيئة أمام ممثلي الدول العربية، فبأي نفسية سيشرح الكعبي تجربتنا بعد هذه الانتكاسة؟ لكن، كيف نفسر توقيت اقحام السلطة التنفيذية نفسها بعد أن انكشفت للمجتمع الحدود المفجعة لسلطة التجار في بلادنا؟ من هنا يفسر مجتمعنا هذا الاقحام بأنه انحياز كامل للتجار، وهذا التفسير له ما يبرره موضوعيا، كيف؟ فقرار مجلس الوزراء سالف الذكر قد استند على ما يبدو الى دراسة اعدها التجار أنفسهم قبل سنتين، بينوا فيها ما يريدونه خدمة لمصالحهم من منظورهم الخاص فقط، خاصة قولهم بأن السعي نحو تقييد حركة الاسعار في السوق المحلي ما هو الا اخلال بمبادئ الاقتصاد الحر وتعطيل للنشاط الاقتصادي للكل..الخ ناسين أو متناسين قضية الاحتكارات وقضايا الغش السابقة، إذن، صوتهم كان المسموع، وهذا ما يفهمه المجتمع جيدا، ويفهم كذلك أن الـ (23) سلعة المحددة بقرار مجلس الوزراء لحمايتها من اية ارتفاعات سعرية غير مبررة، ثلثيها سلع لا يشتكي منها اصلا المواطن ومدعومة من الدولة عبر الهيئة العامة للأمن الغذائي، ويستهلكها الوافدون، وحتى تلكم السلع المحددة، حمايتها الرقابية ليست دائمة وفق القرار نفسه، فقد اعطى القرار لهيئة الأمن الغذائي صلاحية المراجعة السنوية لها وتقديم توصيات لمجلس الوزراء بشأن تحريرها، ماذا يعني ذلك؟ يعني بكل صراحة سحب البساط من تحت اقدام هيئة حماية المستهلك وتفريغها من نجاحاتها المقبلة، إذا لم يكن هذا المقصود بذاتها، فإن حيثيات القرار تحمل هذه التوجهات بصورة غير مقصودة، ولو امعنا التأمل فيها مستقبلا، فسوف يأتي يوم وهو ليس ببعيد، ونعلن فيه وأد هذه الهيئة، ويا بوزيد كأنك ما غزيت، وهذه حقيقة نراها ساطعة من منظور الحاضر، وندللها بما تبقى لهذه الهيئة من صلاحيات إذا ما حصرناها في تلك السلع ونركز على سلع مثل الدانجو والعدس والفول والهريس .. وهي سلع مثيرة للجدل الاجتماعي، بينما تم غل يد الهيئة منذ الآن من كل الخدمات ومن السلع الضرورية الأخرى كذلك، فكيف سيكون وضعها في المستقبل القريب، ونحدده هنا بسنة فقط؟ من هنا نرى أن الهيئة تتعرض فعلا لحرب وجودية من قبل تجارنا، نجحت حتى الآن في إحداث انتكاسة في دورها الرقابي، فهل نتوقع الاسوأ؟ شهر رمضان المبارك على الابواب، ونوايا الاستفادة من تعديل المرتبات التي حملت زيادة في معظم المرتبات كلها والتي تسيل لعاب الطامعين، مؤشرات على أن القادم سوف يكون مثيرا ومستفزا مثلما كانت سابقا لو لا جهود هيئة حماية المستهلك، فلنعط هنا مثالا باللحوم الصومالية الحية المستوردة التي يستهلكها أغلب المواطنين لسعرها المنخفض نسبيا عن اللحوم الطازجة المحلية، ففي رمضان الماضي ارتفعت اسعارها الى (70) ريالا عمانيا لرأس الغنم، ولما بحثت الهيئة في اسباب مبررات الزيادة فوجدتها غير مبررة، وتوصلت إلى سعر مقبول للكل وهو (40) ريالا للرأس في محافظة ظفار و(45) ريالا في بقية المحافظات بسبب البعد الجغرافي، تصوروا معنا حجم الزيادة السعرية الكبيرة التي طمع فيها بعض التجار، فماذا سيكون قيمة الرأس في رمضان الشريف المقبل بعد غل يد الهيئة؟ لأن اللحوم الحية غير مدرجة في قائمة مجلس الوزراء.
والتساؤل المهم الذي ينبغي ان يطرح هنا، هو هل يحق للدولة التدخل في الرقابة على الاسعار؟ بينما كنا نفكر في قرار مجلس الوزراء سالف الذكر، عثرنا بالصدفة على تصريح منشور في احدى صحفنا المحلية لسماحة مفتي عام السلطنة حول القضية التي يطرحها تساؤلنا الاخير، مما فسرنا تقاطعه مع تفكيرنا فجأة، وكأنه رسالة قدرية لتوظيفه لصالح التدخل نفسه المقرون بشرط استباقي محدد أيضا في تصريح سماحته، والتصريح جاء على ما يبدو في شكل فتوى لتدعم صحة مسار حماية المستهلك، فقد قال سماحته حرفيا،، إذا استبد الطمع بكبار التجار، فإنه يسوغ لولي الأمر أن يعالج المشكلة بالعدل ،، ولهذه الفتوى إطارها الزمني ،، المعاصر ،، ومحتواها المكاني ،، العماني ،، ومسألة تدخل الدولة في الاسعار مرتبطة بشرطين وفق تصريح سماحته، الاول، اثبات وجود طمع عند كبار تجارنا، والثاني، أن يترتب على تدخل الدولة تحقيق العدالة للمجتمع وللتجار معا، وهذا ما فعلته الدولة بالضبط، فشرطية الطمع المسبب لارتفاع الاسعار قد اثبتته احكام القضاء مؤخرا، ولا يمكن إنكاره، اما وجوبية العدل هنا، فهو مقدر كذلك في توجهات سلطتنا السياسية العليا عندما أنشأت هيئة وطنية عامة ومستقلة لحماية المستهلك بعد أن وصل الجشع والطمع حدا لا يمكن السكوت عليه بعد ما كان احد اسباب تفجر الاحتقانات عام 2011، ومع هذا فإن العدل لا يختزل هنا في إقامة الهيئة ـ وإنما في ضوابطها المرفوضة من كبار تجارنا، فالهيئة تشترط قبل رفع سعر اية سلعة أو خدمة أن تعلم بذلك مسبقا للتأكد من مبررات الرفع ونسبته، وإذا كانت مبررة، فلن تمنعها، وهذا غير معتاد على تجارنا الذين اعتادوا طوال عقود كثيرة على أنهم هم من يقررون الرفع ونسبته دون رقيب أو حسيب، فمن يراقب من؟ والتاجر وزير، والوزير تاجر، ومن لم يكن وزيرا حاليا فهو لا يزال مؤثرا، اختلفت المواقع فقط، وهناك تساؤل مهم جدا ومحير وهو يكمن في سر تدخل مجلس الوزراء قبل اعتماد قانون حماية المستهلك الذي كنا ننتظره قريبا بعدما شبع نقاشا داخل مجلس عمان المكون من ثنائي المجلسين،، الشورى والدولة ،، السبب يكمن في المسارعة الى تغيير قرار سعادة الدكتور سعيد الكعبي رئيس الهيئة العامة لحماية المستهلك الذ اصدره في اغسطس عام 2011 والقاضي بحظر رفع اسعار السلع والخدمات الا بعد موافقة من الهيئة، فكيف تدخل مجلس الوزراء،، ذاتيا،، في الغاء القرار؟ بمعنى، لماذا لم يلجأ الكعبي نفسه لإلغاء قراره، فهو صاحب القرار الاول، وكان يفترض أن يلغيه أو يعدله هو نفسه وليس مجلس الوزراء ، وهذا يفسر لنا بعدا خفيا مهما، وهو أن الكعبي ربما يكون قد رفض الغاء أو التنازل عن قراره لاستمرارية نفس الاسباب التي جعلته يصدر قرار الحظر، وهذا من حقه لأنه يدير مؤسسة مستقلة إداريا وماليا، وموكلة من لدن المقام السامي للدفاع عن المستهلك، وهكذا اراد عاهل البلاد أن تكون حتى لا تؤثر فيها مثل هذه التدخلات الفوقية أو اللوبيات الاقتصادية، فكيف تدخلت؟ وكيف ساهمت السلطة التنفيذية في نجاحها ولم تشرك بقية السلطة بما فيها التشريعية؟ بدليل مواقف الادانة والاستنكارات التي خرجت من بعض اعضاء مجلس الشورى البارزين، وقد كنا نتوقع من مجلس الوزراء ان يفعل الأوامر السامية بإنشاء الجمعيات التعاونية بدلا من يدخل نفسه طرفا في صراعات جديدة وفي توقيت غير مناسب، فنجاح تجربة التعاونيات سوف تحرر سوقنا المحلية من الاحتكارات التي تمس جوهر الحرية الاقتصادية، ولا يمكن قبول التلويح بفشل هذه الجمعيات في بلادنا، فالتلويح به هو الخوف من نجاح الجمعيات وليس من فشلها، كما صرح به علانية وعبر وسائلنا الإعلامية سعادة الدكتور الكعبي، وهذا استشراف آخر يعكس لنا الخلفيات والأبعاد السرية، للموضوع تتمة.