[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” .. بينما انهمك الأهالي والمسعفون في انتشال جثث الضحايا ونقل المصابين وقعت عين أحد المصورين الصحفيين الذين تواجدوا في المكان لتغطية الحادث على اثنين من المسعفين تركا عملهما في إسعاف المصابين وأخرج أحدهما هاتفه النقال وجذب زميله ليلتقط معه صورة "سيلفي" مع حطام القطار وأشلاء الضحايا ودماء المصابين ليرفعها على حسابه في الـ "فيس بوك" ,”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يبدو أن كثرة الحوادث وتوالي النكبات التي تعرضنا لها خلال السنوات الماضية؛ أفقدتنا جزءا كبيرا من إنسانيتنا, وجعلتنا نتعامل بقدر كبير من اللا مبالاة مع الموت ولا نكترث كثيرا بآلام الجرحى وأنات المصابين, فلا يمر يوم وبالكثير أسبوع إلاِّ ونفتح أعيننا على عمل إرهابي أو حادث سير أو سقوط بناية على قاطنيها أو غرق مركب بمن عليها أو اصطدام قطار بآخر يروح ضحيته العشرات ويتحول جراءه المئات إلى معاقين.
تزامنت هذه النكبات مع ظهور "كائن طفيلي" اسمه الهاتف النقال مزود بكاميرا"عديمة الإحساس".. متصلة بمواقع "التنافر" الاجتماعي, تلقفته أيدي مختلف الشرائح العمرية وسائر الطبقات الاجتماعية لسهولة اقتنائه والتسهيلات التي تمنحها شركات الاتصالات لإغراء العملاء باستخدام منتجاتها, فانكفأ معظمنا على شاشاتها وقبض على لوحات مفاتيحها, وترك الدنيا من حوله بكل مافيها من أحداث , وتوحد مع عالمه الافتراضي, لينفصل عن المجتمع وينعزل عن الواقع.
حتى مشاعر الحب والكره والغيرة والفرح والحزن والفخر والخزي؛ أصبح الشباب لا يجيدون التعبير عنها أو ممارستها إلا َّعن طريق "الشات", و يعجزون عن التعبير عنها أو إقامة علاقات حقيقية سوية في محيطهم الاجتماعي, بعد أن أصبح الهاتف "اللعين" وسيلتهم في تقديم العزاء وعيادة المريض والتهنئة بالأعياد والمناسبات, بل وخوض المعارك الشخصية والفكرية والسياسية والرياضية؛ عن طريق التخندق خلف منصات العالم الافتراضي وتوجيه السباب والقصف والتنابز بالألقاب وإثارة النعرات وإشعال الفتن الطائفية والمذهبية وانتهاك الخصوصية وممارسة النميمة والخوض في الأعراض, وصل الحال بالبعض للإصابة بمرض أطلقوا عليه في الغرب " التوحد مع الهاتف المحمول" وهناك آخرون أصيبوا بحالة أقرب للهوس بالتقاط الصور "السيلفي" مع كافة الأشياء والأحداث والكائنات التي تقع عينهم عليها على مدار اليوم.
وكانت مصر اهتزت يوم الجمعة الماضي على وقع حادث مروع؛ عندما اصطدم قطار قادم من القاهرة إلى الإسكندرية بسرعة جنونية بقطار آخر قادم من بورسعيد متوقف عند مدخل المدينة, دون أن ينتبه سائق القاهرة لوجوده ولا للضوء الأحمر للـ "السيمافور" , لينتج عن الحادث وفاة قرابة الخمسين راكبا ومائة وخمسين مصاباً, هرع أهالي الإسكندرية لمكان الحادث يحاولون إنقاذ الركاب العالقين ومساعدة المصابين في الوصول للمشافي, لحين وصول سيارات الإسعاف وسط مشهد مأساوي اختلطت فيه الدماء والأشلاء بملابس البحر وأدوات التصييف التي ملأ بها الركاب حقائبهم؛ حيث كان الضحايا يمنون أنفسهم بقضاء إجازة سعيدة مع أسرهم في عروس البحر المتوسط, والتخلص على رمال شواطئها من هموم العمل وشواغل الحياة التي كابدوها طوال العام .
وصلت سيارات الإسعاف وقوات الشرطة ومعدات الجيش لموقع الحادث, وتبعهم المسؤولون في المحليات والصحة والنقل ورجال الإعلام, وراح الجميع يتعامل مع الحادث المفجع حسب تخصصه, وسط بكاء وصراخ وعويل ركاب يبحثون عن ذويهم وآباء يبحثون عن أبنائهم وسط الحطام, حتى أن مستشار وزير النقل وقع مغشيا عليه من هول الصدمة و المشاهد المؤلمة وتوفي وهو في سيارة الإسعاف.
وبينما انهمك الأهالي والمسعفون في انتشال جثث الضحايا ونقل المصابين وقعت عين أحد المصورين الصحفيين الذين تواجدوا في المكان لتغطية الحادث على اثنين من المسعفين تركا عملهما في إسعاف المصابين وأخرج أحدهما هاتفه النقال وجذب زميله ليلتقط معه صورة "سيلفي" مع حطام القطار وأشلاء الضحايا ودماء المصابين ليرفعها على حسابه في الـ "فيس بوك" , غير عابئين بالكارثة الإنسانية التي تحيطهم ولا مبالين بحاجة أناس يصارعون الموت للإنقاذ والمساعدة, وسارع الصحفي بتصويرهما على هذه الحالة الشاذة ونشر الصورة فورا على الـ "فيس بوك" دون أن ينتظر حتى تنشرها جريدته في اليوم التالي, وقامت الدنيا في مصر ولم تقعد غضبا وحنقا على المسعفين, وتم تصعيد أمرهما لوزير الصحة الذي أصدر قرارا بنقلهما إلى واحة سيوة على الحدود مع ليبيا.
قبل أن نزايد على مروءة وإنسانية هذين المسعفين, ونغتالهما معنويا بادعاء الفضيلة والكمال, علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ونعترف أن هناك قيما كثيرة اهتزت وخصالا تراجعت وأن آفة اللامبالاة اللعينة ضربت كثيرا من شبابنا وربما شيوخنا, وأن ظاهرة الـ"السيلفي" مع الكوارث والحوادث أصبحت ظاهرة عالمية, وانتقلت للأسف لبلادنا العربية, وكثيرا ما شاهدنا أشخاصا يهرعون إلى أماكن الحوادث فور سماعهم بوقوعها, وبدلا من أن يمدوا أيديهم لمساعدة المنكوبين وإنقاذ المصابين, يشهرون هواتفهم "الغبية" ويصورون الضحايا دون رحمة في مشهد يندى له جبين الإنسانية وترفضه الفطرة السليمة وتلعنه كافة الأديان , وحسناً فعلت السلطنة عندما فرضت عقوبات رادعة على كل من يضبط ومعه هاتف به كاميرا يمارس من خلالها جريمة التصوير في أماكن الحوادث.
هذا التصرف المخزي من قبل هذين المسعفين, لا يقلل من جهود رجال الإسعاف في التعامل مع الحادث ولا الموقف البطولي لشباب الإسكندرية؛ الذين سارعوا بمجرد سماعهم صوت اصطدام القطارين إلى مكان وقوعه وقاموا بمساعدة الركاب المنكوبين ومحاولة التخفيف عنهم ؛ قبل وصول فرق الإنقاذ لمكان الحادث؛ بستر من قضى نحبه و نقل من أصيب لأقرب مستشفى والتخفيف من روع الناجين, واستخدموا شبكات التواصل الاجتماعي, في الإعلان عن حاجة مصابي الحادث لمتبرعين بالدم ونشروا أسماء المستشفيات المتواجدين بها والفصيلة المراد التبرع لها, وآخرون نشروا أسماء وصور الضحايا مجهولي الهوية من القتلي والمصابين والأطفال التائهين ؛ ليسهل على ذويهم الوصول لأماكنهم , فمواقع التواصل الاجتماعي ليس كلها شراً , ولكن المشكلة في كيفية وطريقة استخدام الإنسان لها فيما يفيده ويفيد مجتمعه.