لم تعد أسلحة الدمار الشامل هي تلك الأسلحة المرئية التي يتم إجراء التجارب عليها سرًّا أو جهرًا انتظارًا لاستخدامها في دمار البشرية حين يصدر حكم من مجهول بتنفيذ حكم الإعدام فيها وقتما يشاء هواه.
إنما هناك أسلحة دمار شامل من نوع آخر أخذت تزحف على سطح الأرض وهي تلك الأسلحة التي تستهدف ذاكرة البشرية وصفحات تاريخها، تارة بالكذب والتزوير في الأحداث وتارة بالتمويه على الحقائق المأساوية التي تكمن في ثنايا حديث العالم عن الرغبة في إخلاء الكرة الأرضية من التهديدات النووية.
إن تزييف إرادة العالم لخدمة حفنة من المغامرين في كيان الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها الذين (يسرِّعون) نشاطاتهم النووية ويحاصرون في نفس الوقت رغبة الآخرين في حماية أنفسهم، يدفع العالم إلى مزيد من التوتر والسباق النووي، فإذا وضعت لعبة السياسة الدولية الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو كوريا الشمالية بين خيارين أحدهما أن ينال مصير العراق أو تطوير سلاح نووي رادع فإنه دونما شك سيختار الخيار الثاني، وليذهب أمن العالم وسلامة بيئته إلى الجحيم.
مناسبة ذلك عودة التصعيد الأميركي ـ الغربي تجاه كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية على خلفية الاتفاق الموقع بين القوى الدولية المعروفة بمجموعة الست، وكوريا الشمالية على خلفية تجاربها الصاروخية العابرة للقارات وتجاربها النووية، في الوقت الذي تساند فيه الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية كيان الاحتلال الإسرائيلي "نوويًّا" وتساند كذلك دولًا أخرى مدفوعة بمشاكل بينها وبين خصومها، كما هو الحال على سبيل المثال مساندة الولايات المتحدة للهند جراء الصراع الاقتصادي والعسكري القائم بين الصين وأميركا.
وإذا كانت مشاكل الولايات المتحدة مع خصومها التقليديين تحفزها لمثل هذه السياسات فإن الوضع ـ بكل تأكيد ـ مع كيان الاحتلال الإسرائيلي يبدو مختلفًا، حيث لا يشكل العرب مطلقًا أي تهديد جدي للولايات المتحدة ولا حتى لكيان الاحتلال الإسرائيلي، بل العكس من ذلك، فهناك رغبة لدى دول عربية ـ ظلت تجاهر عقودًا بعدائها الظاهري والشكلي لكيان الاحتلال الإسرائيلي ـ في تطبيع مجاني على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية وما ظل يعرف بـ"قضية العرب المركزية" وهي القضية الفلسطينية.
طبعًا هنا لا ندافع عن أحد في قضيته وصراعه النووي مع القوى الدولية أو ما يسمى بالمجتمع الدولي، ورغبتنا الحقيقية أن نعيش في عالم خال من كل أنواع أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها السلاح النووي، لكن السؤال الذي بات يفرض ذاته هو: لماذا تشجيع كيان الاحتلال الإسرائيلي على امتلاك هذه الترسانة الهائلة للسلاح النووي، وكذلك تزويده بآخر ما توصلت إليه صناعة السلاح الأميركي والغربي المتقدم بينما كل المبررات والذرائع غير موجودة؟ ربما كانت هذه النقطة تحديدًا أهم مؤشرات الجدل حول البرنامج النووي الإيراني بمعنى أن يكون الجدل حول البرنامج النووي الإيراني بمثابة غطاء وذريعة لتفعيل البرنامج النووي العسكري الإسرائيلي ـ مع أن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي سابق لبرنامج إيران النووي. وفي كلتا الحالتين يدفع العرب الثمن قلقًا على مستقبلهم الاقتصادي والبيئي والاستراتيجي بشكل عام.
في التقدير المتواضع، إن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الصراع القائم، هو السياسات الغربية المبنية على أخطاء وأطماع ومصالح واستثناءات، وهي التي قادت إلى دخول العالم إلى هذه الأتون، ومنعرج سباق التسلح بما فيها التسلح النووي؛ فلغة العقوبات الاقتصادية والحصارات الظالمة، والحروب العدوانية، وأحلام سيادة العالم والسيطرة عليه والتحكم بمقدراته، وبالقرارات الدولية، أسهمت إسهامًا مباشرًا في ضعضعة الأمن والسلم الدوليين.
لذلك قضايا العالم اليوم بحاجة إلى لغة الحكمة والتسامح والسلام، وتبديد مظاهر القلق، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، والتخلي عن النزعات الاستعمارية، وأحلام قيادة العالم والتحكم بمصيره، والبُعد عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الاحتقان والتوتر، وما صرح به رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة "جوزيف دانفورد" يوم أمس بشأن الأزمة الكورية الشمالية، بحاجة إلى مراجعة خاصة فيما يتعلق بالخيارات العسكرية الممكنة، فقد صرح دانفورد بأن اللجوء للحل العسكرى مع كوريا الشمالية "مروع"، لكنه ليس من المتخيَّل أن نسمح لبيونج يانج الحصول على أسلحة تكافئ ما تمتلكه الولايات المتحدة، لذا فإن الرئيس دونالد ترامب أمر بتطوير خيارات عسكرية ممكنة، وهذا ما نفعله بالتحديد. فاللغة الفوقية هنا لا تزال هي المتحكمة في المواقف، ومثل هذه المواقف لا تخدم الأمن والسلم الدوليين، ولا تنجز سلامًا منشودًا أو حتى حلولًا مؤقتة.