[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
” يا يوسف.. يا نداء القدس، ودموع الخليل، ونخوة غزة، وفورة الغضب في ليل بؤس العرب.. يا شاعر فلسطين وسنديانتها العريقة، وضوء زيت زيتونها الذي ينير دروب القلوب إلى الذخائر، ويفتح البصائر على المصائر.. ذاك الذي يُراد له أن يُنسى.. لن ننساك.. فلا يركنن قلبك لليأس.. ولا تحسبن أن حرفك مات أو أمات.”

لست أدري هل يوسف الخطيب فلسطيني، أم هو قضية فلسطين على نحو ما؟!
ولست أدري أيضاً أهو بعدها القومي في الوسط الفلسطيني، أم بعدها الفلسطيني في أمة العرب؟!.
أسأل نفسي أحياناً ذلك السؤال، نظراً لتداخل نسيج الرجل بالقضية والأمة معاً، على نحو عضوي، يشكل حياة !!.
ولكنني في لحظات ألمحه على رصيف شارع محايد، معنياً بأشياء أخرى، ربما ألجأه إليها التعب، أو القنوط، أو اليأس، أو فروض الحياة الكثيرة والكبيرة، فتتملكني الحيرة، وأسأل نفسي من جديد: هل هو يوسف القضية، أم هو يوسف آخر، أخذته الحياة من ذاته، كما أُخذِت القضية، قضيته، من أيدي أبنائها أحياناً..وهاهو الزمن يتلهَّى به على نحو ما؟!
معذور أنا في تساؤلاتي، وفي حيرتي.. فيوسف جزء من مرحلة، ومن تكوين، وهو عزيز عليَّ، وقضية فلسطين هي كل المراحل، وهي الأهم والأعز، وما زال الأمل في الأمة أكبر من اليأس منها. ويوسف هو القائل :
"إن مرافئ الحنين التي أتَّقد شوقاً لبلوغها، ليست إلا مجرد بعيدة وحسب.. فهي قائمة فعلاً في دارات مكان ما، لا بد أن يتراءى يوماً.. وفي ذات زمان آتٍ، لا بد من أن يأزف آخر الأمر."
وهو الذي يقول أيضاً:
"أصعب ما في رسالة الشاعر الملتزم، بعد حرب حزيران، هو أن عليه، من موقع الهزيمة، أن يبشِّر بالنصر، ومن جوف الظلام أن يستعجل طلوع الصباح ."
يوسف الخطيب لغةٌ شعرية، معجونة حروفها بالدم والزيتون، مضمخة بالسَّعتر البرّي والطيّون، ومحفوفة بهالة القداسة المتصلة بالشهادة، والقدس، والعروبة، والرسالة الخالدة.
يوسف الخطيب: وتر تعزف عليه الرِّيح، فتراه يضطرب، ينتفض، ومن اضطرابه وانتفاضه ينبعث الحداء: لعرب تعيدهم فلسطين إلى وحدة الصف والموقف والهدف ودار الكرامة.. ولفلسطين يعيدها العرب إلى حضن الوطن الكبير، باقتدار وشهامة وإصرار وإكبار.
وحين أقمّش نسيجه الموشَّى، ينزُّ على كفي منه دم الجراح، وتحترق أناملي بزفرات قلبٍ، حرَّقه الشوق إلى غزّة هاشم، ودورا الخليل، وحُرمة الأقصى، وقبة الصخرة، وباب الخليل، فاختزَن وقدَهُ تحت رماد القول، الذي ينم دائماً عن روح متوهجة، تماهت بالأمة القضية، وبالقضية الأمة.
وأراه، حين ألمح وجهه في القصيد، فارساً تقطّعت به السبل، فغرس رمحه واتكأ عليه من فوق صهوة جواد أصيل، لا يمل من الحركة والوقوف والصهيل، وقف يرد الفرسان إلى ساحة الوغى، ودروب الحرية، ليردواالحرية للشعب، والكرامة إلى الأمة.
يوسف الخطيب تيّمَه عشق الوطن، وعشق آخر في الغربة، خالَ أنه يعيده إلى الوطن، فهبّراه تهبيراً. وما بين دمشق وبغداد، أضاع قلباً ويداً، بعد أن بُح منه الصوت، لكثرة ماعزف على شفرة اللسان.. "الشام أهلي، والهوى بغداد"؟!
وبقي معلقاً في ذلك المدى، تسفعُه سَمَوم الصحراء، فيكوِّر "قضاضة"عربية ناصعة البياض، "أو كوفية رمزاً، فوق الرأس المشتعل شيباً، ويستعير من الهلالي، أبي زيد، ساعداً وسيفاً وربَابة، ويخيم في فضاء ممتد، ما بين حيفا وبغداد.. يعزف الألحان ويكرِّرها على الأسماع.. لعلَّ وعسى؛ وحين يلجئه القيظ والرمل المشتعل إلى قَيْلُولَة، يطل من سفح قاسيون على وطنه وينشد:
"راية البعث في يديّ، وخوفي
أن بالقدس لاتَ حين تلاقِ
بين حيَّين في السقيفة أبكي
حيّ سورية.. وحيّ العراقِ"
ولكنه بعد سنين من شوي الكبد على رمضاء السياسة، ينتشل بصره من المَدى المغبَر، والهم الأصفر، ويركز بصيرته في الجرح..بينما الألم يعتصر روحه.. ويموثُ الصَّبْر تحت لسانه، ويقول:
"ها أنا، أيها الرفاق، وأنتم
قد سئمنا خوارق السندبادِ..
أتحدّاه أن يخوض بحور الملحِ
من جلّقٍ.. إلى بغداد..".
ولكنها حالة غم ثقيلة، طال أمدُها، و تَشَمْرَخَت في حقول الإحباط الخصبة، جعلته، فيما أراه وفيما أقدِّر فيه، مثقلاً باليأس، وهو يمخر بزورقه المُثقَّب، عتمةَ الليل، متعباً، يرقب انبلاجَ الفجر.. حالة الغم تلك، كابوس يجثم على الصدر، تزيغ عيون الأمل فيرى الإخفاق أفقاً، ويرخي قبضة اليد عن المجذاف، ليحرِّك ماءً، فيعبث به الماءُ السراب!! مهلاً.. أبا الرائعات مِن مثل قولك:
بالشام أهلي والهوى بغداد...
ومِن مثل:
أكاد أومن، من شكٍّ ومن عجبِ،
هذي الجماهير، ليست أُمَّة العربِ
مهلاً، فأمتنا أكبر من ليلها، وأكبر من غرابيب سود، تتكاثف في سمائها، وأكبر من خَونة وعملاء وجهلة وأدعياء، ومُفرِّطين بالحق والأرض والعرض، يتناثرون هنا وهناك، ويتآمرون هنا وهناك، ويتقاتلون هنا وهناك.. مهلاً، فلن يلبثوا إلا "ليلة وضحاها"، من عمر الأمم المَديد، حتى يكنسهم الشعب والوقت من عتبات العروبة، التي بقيت رغم المحن، وستبقى على الزمن. مهلاً، وأنت المقتدي المستبشر القائل:
"خلّ نصف النضال قولاً، ولكن...
خلِّ نصفاً إلى الحسام المُجرّد
واحدُ الخلق، من أضاء من الحرفِ
شبا السيف.. فاستضاء: مُحّمد."
أفلا يكون اليوم، في سيوف تستضيء بهداه، وببعد عربي جسَّده، أكثر مما جسّده سواه.. سيوف قامت وتقوم بفعل مقاومٍ جاد، وجهادي واعٍ مضيئ، في القدس، وغزة، والخضيرة، وبيت ليد، والخليل، وفي كل مكان من فلسطين، في الجولان، وفي جنوب لبنان.. أفلا يكون في ذلك وفي سواه، ما يبعث الأمل، ويغيث الهِمم، فتنهض من جديد؟!
قد يتشقق قلبك أسىً، حين وقع الفتنة ورفع الصوت بالدمار والموت.. في الشام والعراق واليمن وليبيا عمر المُختار، يسيئ إلى العروبة والإسلام معاً، وللأحياء والأموات معاً، وللشهداء على طريق تحرير الأرض والإنسان معاً.. حيث يكون ذلك نكوص عن كل طريق التحرير والحرية والكرامة، وفتك بالأمة وقيمها وأجيالها، وتفريط يخجل منه التاريخ، بما لايجوز أن يفرَّط به عربي مدى التاريخ.. وحين يكون هناك ارتماء على أعتاب الصهاينة، يدنِّس شرف الحجارة التي ارتفعت نوراً وناراً، بأيدي أطفال فلسطين، الذين غنَّيت لهم، في انتفاضاتهم، وشددت ظهرك وعزمك بهم.. وناديتهم، وناديت بهم، في صبح فجيعة مرة، إلى موسم خصب من البطولات والتضحيات.. فاستجاب لندائك، الشرفاء من أهل النَّخوة والانتماء، وأمطروا العدو المحتل بما يؤكد انغراسهم ونموهم في أرض فلسطين، رغم الخونة والمستسلمين.. لكن، من أسف أقول لك اليوم، والشعب العربي موزَّع، والقلب من المناضلين المخلصين مُفَجَّع، والأبصار تزوغ، والبصائر زبدّ يرغو ويروغ، أقول لك من أسف: إن الصوت الخانع، أصبح يحتج بواقع مرٍّ لا يدافَع، واقع هو التردي والضعف والمقت والعقم.. والانغماس في حمأ الطائفية، والكراهية، والتعادي المقيت، والاقتتال المميت.. والتفريط بالحق، تذرعاً بالضعف والعجز.. حيث يتغوَّل المنبعثون من ِدمن "أوسلو"، والمستنبتون فيها، ويتوغلون في التفريط والخطيئة التاريخية، الوطنية والقومية، أوتوغل من لا تعنيه فلسطين وتضحيات أهلها، والأمة العربية على طريقها.. توغل مَن ليس حامل راية فلسطين ولا هو صوتها، ولا هو ترجمان الدم الطهور الذي سال على طرقاتها، من "حي الهدار"في حيفا، والرملة، واللد وغيرها من مواقع في أربعينيات القرن العشرين، إلى مذبحة الحرم الإبراهيمي في التسعينيات، وسواقي الدم في القدس والأقصى .. مروراً بدمٍ طهور في دير ياسين، وكفر قاسم، وقِبية، ونحالين، وفي صبرا وشاتيلا.. و"قانا"الجليل.. دمٌ هو مشاعل أضاءت الحرفَ العربي، وأضاءها الدم والحرف، من "فردان"، إلى تونس، ومن قرية إلى قرية في كل قرى فلسطين ومدنها، يوم كان الشعب انتفاضة والأطفال حَمَلَة أر.ب.جي وحجارة، هي إرادة شعب، وتصميمه على استعادة الحق.
يا يوسف.. يا نداء القدس، ودموع الخليل، ونخوة غزة، وفورة الغضب في ليل بؤس العرب.. يا شاعر فلسطين وسنديانتها العريقة، وضوء زيت زيتونها الذي ينير دروب القلوب إلى الذخائر، ويفتح البصائر على المصائر.. ذاك الذي يُراد له أن يُنسى.. لن ننساك.. فلا يركنن قلبك لليأس.. ولا تحسبن أن حرفك مات أو أمات. فأنت الحادي، ونشوة النداء، وزفرة عشاق فلسطين، وصوت الأمة، التي قطّع أنفاسها المهرولون والمرتمون على أعتاب العنصري المحتل، والمتآمرون، والطائفيون، وقصار النظر.. فذوت وكبت.. وتحتاج إلى من يُنهضها وينهض بها.. خذ ربابتك وقوسك يا يوسف، وردّد ما قلته لنا، وما رددته على مسامعنا، من ساطع القول، متين السبك، جميل النغم، صادق العزم، بطوليّ التطلع.. فلِمثل هذا تحتاج أمتك اليوم، ليوقظ فيها نخوة ماتت أو كادت تموت.. ولمثل هذا يحتاج الشِّعر اليوم، لكي يستعيد مكانة وتأثيراً وحيوية واحتراماً، فأنت لا تحسن الغناء فقط، بل أنت من ينعشنا ويطربنا غناؤه. فقل لنا، يا شيخنا، تصنعنا من جديد، وتُمِدّنا مما تنفد الأقلام والقراطيس ولا ينفد، من: صادق القول، يبعث صادق العزم، في أمة تمتد من هذا الآن..إلى أكاد وكنعان، ومن طنجة إلى بغداد.. قل وأعد فينا القول: أولست ذاك الذي قال:
"قد ترى أدمعي، وذوبَ فؤادي
وسراجَ الحياة يخبو رويداً
ذاك أني، لأجل عين بلادي
أستسيغ الردى... ولا أتردَّى".
لقد ضاع بعض حقك، في زمن أضاعت الأمة فيها معايير، وحقوقاً، وقيماً، وقضايا كبرى، ومقومات صراع رئيس مع عدو الأمة، من أجل وطن وحق وكرامة.. وأنا أستشعر دبيب النمل الغاضب في دمك، على حالةِ ترقِّع الشِّعر حُللاً على أمثال أبي عبد الله الصغير، صاحب غرناطة، وتشد السروجَ على الماعزو ليفوز منها فائز؟!.. وأستشعر الألم يعتصر قلبك، من ظلم ألم بساحتك، من رفاق وأخوة وأصدقاء وأبناء عمومة وعشيرة، ومن أمة؟!
من حقك، أن يضج دمك، ودم أمثالك، بالسؤال الاستنكاري! لماذا؟! ومن حقك أن تسأل عن الشعر فيمن، رُفِعوا أعلاماً، ترفرف في مساحات الإعلام، ومن حقك أن تقول قولك:
"رضيتَ جزاءَ عصياني
ويُعْرَف من هم الشعراءُ،
لا من خِلعةِ السلطان..
بل.. من فادح الثمنِ".
من حقك أن تفعل ..
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً
على المرء من حدِّ الحسام المجرد
من حقك لأنك لست سمسار حروف، تروّج تجارته ألف إذاعة، ورعيل متجدد الترتيل، من ميليشيا الأيديولوجية المنتشية بالدبكة، على وقع طبول ينبعث من وراء انبساط الصقيع..
ولأن يوسف الخطيب، ابن قضية تركض مقطوعة الرأس، من بيت إلى بيت في دنيا العرب، وكلما خرجت مطرودة من دار أبيها، وهبها هو وأمثاله، عزماً، وجدد حركة دمها، لتتابع صهيلها في القلوب وعلى الدروب، حتى وهي مقطوعة الرأس أو تكاد؛ ولأنه شاعر من زمن اندثار قيم فنية في دنيا الشعر، ومقومات في دنيا الفن، وابن أصالتين: أصالة الإبداع، وأصالة النضال،اللتين تضافرتا، فضفرتا جديلة الإبداع الرائعة المنسدلة على جيد الشعر العربي؛ ولأنه نذر نفسه لفلسطين والأمة العربية، فجعله صدقه، وثباته على المبدأ،يلتزم محراب صدق، أوصد بابه سماسرة القضايا والمبادئ، حتى لا يشع منه نور، أو يتضوع عطر وينتشر بخور، وراحوا، في أربعة أركان الأرض، يبيعون ويشترون، ويتشمرخ على ألسنتهم اللغو حَبَلاً كاذباً.. لأنه وأمثاله كذلك، يدفعون الثمن الفادح، حتى في ساحة الشعر، وفي أسرة الأدب. لا سيما بعد أن أصبح الشعر في الناس، وأصبح أناس بواسطة الشعر، ما أصبح وأصبحوا عليه من حال، يصدق فيها قولك:
"ما دهى الشعرَ، غدا سِحْراً وترقيص أفاعي
وسراويل مَحيكات بأنوال العَدمْ
قيل "إبداع"فلم ألق سوى محض "اتباعِ"
بين مِهيارٍ دمشقي.. ومِهيارِ عجم".
ولكن أنت لك أولوياتك، وأول تلك الأولويات: "ألا ينحني رأس العروبة"؛ وقد يتأتى انحناؤها من الشعر والنثر، كما يتأتى من السياسة، ومما يجري في ساحات وغى، ليست هي الساحات..
لكن ما هي مهنة الفارس، وما هي مهمته، في أمة تُعلي شأن فرسانها على مر التاريخ!! وفي الأزمنة التي تحتاج فيها الأمم، إلى من يحث على صنع التاريخ؟!.أليس الاستمرار في النضال من أجل انبلاج فجر حقيقي لا خلّبي، ليقوم الإبداع على أساس، وليقوم الناس على قيم وعقيدة ومبدأ… والكرامة هي في الحياة أساس؟!
أطلت قليلاً، وما كان ينبغي لي أن أفعَل، وقصّرت كثيراً، وما كان ينبغي أن أقصّر.. إذ كان ينبغي أن تشمل جولتي بعض ميادين عطائك الأوسع، شعراً و نثراً، عملاً إدارياً وأداء نضالياً.. ولكن ماذا أفعل أيها الصديق.. والوقت يجحدني وأجحده.. وكل منا لا يرضى عن صاحبه.
كل ما أستطيع أن أطلبه، وأن أعد به، في بوحٍ منذور لتكريمك، هو أن تقبل مني وعداً، بأن أتوسع في الكتابة عن إنتاجك، ليكون ذلك خدمة لنا وليس لك، فأنت فارس قضية، وأنت حين أجول في تفاصيل حروفك: نبض عرق في جسد، ونبض شعب وغربة واغتراب، وهجرة وتهجير، ونبض مخيمات، نبض شام وعراق، نبض تاريخ وأمة، نبض قدس أقداس فلسطين، وتراتيل العرب..
فهل نتوافق على هذا الوعد، لأرتاح، وأنا أزف إليك التقدير وأزف فيك فلسطين إلى مجد الشعر.. فأنت غير ما صنع الذين صنعوا من وهم الشعر شعراً، ومن هيولى الشخوص أبطالاً.
لك التحية ولفلسطين، كل فلسطين، التحرير الكامل. ولشهدائنا الخلود، ولأمتنا التي أحببتها وأخلصت لها، النصر بعون الله.