جمال النوفلي:
كون أن هذه التفاصيل هي قبل الأخيرة من رحلتنا إلى اليونان، سنختتم كل شيء في العدد (7)، وهنا دعوني أقول إن هذا اليوم ومن خلال هذا الواقع السردي يقودنا الحديث إلى تلك القرية التي توقفنا عند حيثياتها في الفترة الماضية، هذه القرية بنيت بتدرج على الجبل فإن أقدامنا نالها الإرهاق الشديد بسبب النزول والهبوط لكنني عندما شاهدت عجوزا تجر حقيبة ثقيلة وتصعد بها الى منزلها أعلى القرية هان علي الارهاق والتعب بل توليت حمل حقيبتها حتى أوصلتها منزلها.
على كل حال بعد الغداء قرر حمد ان يذهب الى صومعة شهيرة تقع في مكان شاهق أعلى القرية لا يمكن الوصول اليها الا بعناء وكبد شديد، لا ندري لماذا يريد ان يذهب الى تلك الصومعة؟ هل يمكن أنه أحب التوافق مع حيثيات آلهة اليونان القديمة؟ قد يكون، على كل حال فضلنا انا وخالد التجول في الازقة والاستمتاع بالطعام والشراب والقفز الى أعماق البحر، والحق أنني لم اكن استمتع بالقفز الحر هذا، لأن الصخرة التي كنا نقفز منها كانت عالية جدا فهي تعلو سطح البحر من ٨ الى ١٠ امتار، وقد رأيت فتية وفتيات صغارا يقفزون منها بكل شجاعة، أما الشباب والفتيات الذي يقاربونني عمرا فقد كانوا يتقلبون قلبه أو قلبتين أثناء القفز، لذلك بعد استحضرت شجاعتي وأيقظت المجنون الذي في داخلي وحدثت نفسي بأني ان لم أتجاوز هذا التحدي فسوف لن أتجاوز اي تحد اخر في حياتي، عندها قررت ان اقفز وقفزت، ثم قفزت مرة ومرتين وثلاثا، ثم صعدت الى صخرة أخرى اعلى منها قليلا مع شباب اميركان كان يشعرون هم ايضا بنفس التحدي الذي اشعر به وقفزوا وقفزت أنا وراءهم، وخرجوا هم ولم أخرج انا، لقد غصت بعيدا الى الأعماق المظلمة وحينما رفعت رأسي الى الأعلى لأرى أشعة الشمس أدركت كم هي المسافة بعيدة حتى اتمكن من العودة وانتابني فزع شديد، وهذا النوع من الفزع هو يجعل شجاعتي تنضب وقواي تخور، وبصعوبة بالغة استطعت ان أخرج رأسي من الاعماق ثم شعرت بشد عضلي في كتفي ورجلي وسبحت مذعورا حتى وصلت السلم، وعندما خرجت ذهب كل ذلك ذلك التعب والشد العضلي فجأة وكأنه أوهام، وكانت تلك آخر قفزة لي ..
على كل حال عندما خرجت دعاني خالد الى تناول عصير اللميون الروسي في إحدى تلك المشارب المتربعة فوق نفس الصخرة الكبيرة التي قفزت منها، جلست الى المشرب وكان مملوءا بالشباب والفتيات السياح الذين جاؤوا من مختلف أنحاء اليونان والعالم للاستمتاع والمرح، وأنا جالس على احد تلك المقاعد الطويلة أتحدث تارة الى الندلاء المشغولين وتارة الى السياح، حتى جاءت امرأة وجلست الى جواري، كانت المراة تقترب من الخمسين في عمرها تضع نظارة سوداء فوق عينها وتتنشق الدخان بشراهة، لكنها كانت أنيقة وائعة لا يتقاطع سنها مع ما رأيته من تقاسيم وجهها، فهي تطفح شبابا وحيوية، طلبت لنفسها شرابا قويا وابتسمت لي، لم أعرها اي اهتمام على الرغم من انها ظلت طوال الوقت تبتسم، ثم اقتربت مني وطلبت قداحة للتدخين، أخبرتها بأني لا أدخن ولا املك قداحة، ثم حاولت مجددا وطلبت مني أن أصورها فيديو بهاتفها لأنها ترغب بإرسال المقطع الى اصدقائها، فلم يكن لي بد من أن اوافق، ودار بيننا حديث شيق بعد ذلك، حيث تبين انها نيوزيلندية من أصول مصرية، عرفت ذلك عندما أخبرتني ان اسمها سحر، وهي تعمل صحفية في مجلة موضة شهيرة وتستغل اجازتها في هذه الجزيرة الدافئة للاسترخاء والكتابة، سألتها ماذا تكتبين؟ قالت : أجري حوارات مع نساء من مختلف البلدان لأحصل على إجابات لسؤال محدد.
رائع ما هو هذا السؤال؟
السؤال هو لماذا بعض الزوجات يرغبن في علاقات سلبية وسيئة السمعة في إطار الزوجية؟
حقا انه موضوع شيق.. لكن ما هو السبب في رأيك!
لا أعرف السبب، لكل امرأة أسبابها الخاصة لهذا انا اجري حوارات مع النساء لأصل الى إجابات وحكايات مختلفة ثم أخرج منها بكتاب.
فكرة عبقرية، اقول لك حاجة انا ايضا كاتب
والله .. في أي مجال تكتب؟
اممم لست كاتبا بالمعنى الكلمة للكتاب لكني أكتب أشياء فيحبها الناس ويتناقلونها.
وهل الكتابة أكثر من ذلك؟
لا ادري.. انت أعرف مني
وبعد حديث طويل بيننا قررت ان اتركها لأن التعب أخذ يتغلغل الى كل جزء مني وشعرت بالنعاس واستأذنتها بالذهاب على ان ألتقي بها مرة أخرى الساعة ٩ ليلا في نفس المكان حيث ستكون حفلة موسيقية صاخبة.
سعدت بهذه الدعوة كثيرا ولكن ولسوء حظي خسرت موعد اللقاء بعد أن استغرقت في نوم عميق حتى الساعة ١٠ ليلا، ثم قضيت الليل كله أشكو همومي لخالد ونتجول في النوادي البحرية فوق الصخور نستمع بالموسيقى ومشاهدة الرقص والصخب وفوضى الشباب وعبثهم وجنونهم.
لقد رأيت بأم عيني بعض الشباب والفتيات في مشاهد غير مألوفة ويقفزون من اعلى الصخور الى البحر ظنا منهم ان الظلام يكسو حقيقة ما يقومون به، ثم رأيت صديقا لهم يحاول أن يشاكسهم من خلال إحداث عراك معهم، كل ذلك في سبيل قضاء ليلة استثنائية حسب تصوري واعتقادي، حتى أضحوكة، كانت ليلة مجنونة جدا حتى نحن ربما أصابنا شيء من ذلك من الجنون، اليوم نلهو ومن ثم نذهب الى جزيرة ايبويا حيث نحضر العرس اليوناني.
صباح هذا اليوم خرجنا من جزيرة هايدرا، تلك الجزيرة الصغيرة الجميلة الهادئة، لقد قمنا بأشياء كثيرة فيها، لا يعدو سائرها الا يكون لعبا أو لهوا أو متعة وقليلا من الحكمة مع الحفاظ على الصلاة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فأنا وخالد كنا منغمسين حد الأذقان غارقين حيث تلك الصخرة الكبيرة الذي كنت أقفز من علوها لأغرق في الاعماق، وعند ذلك المقهى القابع فوق الصخرة حيث عزفت الموسيقى اليونانية ليلا، موسيقى ليست كأي موسيقى يمكن سماعها، الناس كانوا جلوسا على مقاعد منتشرة فوق الصخور والبحر أسفل منهم يهدر بأمواجه في ليلة سمراء، لكن صوت الموسيقى كان أجمل وألطف من كل شيء، كان ينفذ الى قلوبهم فتراهم يتمايلون فرحا ويصفقون، وكانت الفرقة تزداد حماسا وإتقانا وقوة كلما تفاعل الجمهور معها، وكنا معهم مدهوشين مأخوذين بروعة المنظر وجمال الغناء، صحيح أننا لم نكن نفهم شيئا من تلك الكلمات المغناة لكن الموسيقى والأداء وحدهما كافيان لاستثارة أعمق عواطف الانسان، أما حمد فلم يشاركنا في شيء من ذلك، لقد اختار ان ينزوي بنفسه في إحدى الصوامع القديمة الواقعة في مكان عال جدا من الجزيرة، لا يمكن الوصول اليه الا مشيا وتسلقا عبر الاشجار والاحراش، هناك شيء يقلقه كثيرا، لا بد أن فكرة زواج هيلين قد شكلت له ازعاجا شديدا الى الحد الذي صار فيه ينصرف معه عن المتع الى التدين والخضوع الى السماء، ترى أي سماء هذي التي تخلق الخير والشر من ذات القدر ومن ذات الفعل!، أحقا هناك خير خالص في الحياة! أم أنها لعبة السماء بأهل الارض، والحق أننا لم نكن نعرف السبب الحقيقي وراء هذا القلق الذي كانت ينتابه كلما اقترب موعد العرس، وإنما هي فقط أحد تفسيراتنا المستساغة لنكتنا وضحكنا.
الانسان كائن متدين عاجز بطبعه، وفي هذا الصباح تركنا الجزيرة لنعبر أيضا الى جزيرة أخرى، هي أكبر حجما وأكثر كثافة في السكان إنها جزيرة إيبويا إحدى أكبر الجزر اليونانية، تبلغ مساحتها ٣,٦٨٤ م ويقطنها عدد السكان يزيد عن المئتي الف نسمة وعاصمتها شاكلس، لقد كنت أقف تحت اشعة الشمس الباردة في أحد مراسي قوارب الصيد الصغيرة وسط الجزيرة، وكان الهواء العليل يتسلل بين واشجار وأزهار حديقة الممشى الجميل الممتد على طول الشاطيء، ونحن نتظر هيلين أن تأتي لتقلنا الى منزلها لنستقر فيه حتى موعد العرس، وجاءت هيلين وجاء معها خطيبها ثانيوس مرة أخرى، إنه شيء مؤسف جدا أن أراه مرة أخرى بعد كل تلك السخرية الكلامية بيننا لكن الفتاة الجميلة التي كانت تمشي بجواره والتي بلغت من الجمال اليوناني القديم والأناقة الحديثة والادب الجم جدا جعلني أنسى كل المشاكسات التي بيننا، فقد كانت تلك الفتاة أخته وكان تسمى اثينا.
عندما سألتها متعجبا لماذا تسميت باسم العاصمة اثينا؟ أجابت: ومن قال لك ان العاصمة اسمها أثينا أن أسمها اثين. "من قال لي!! قالت لي أم الصروم ذلك" . كانت أثينا أشد سخرية من أخيها وأحضر ذهنا منه فقد كانت عيناها السوداوان تتألقان فطنة وذكاء.

ومشينا الى المنزل لأنه لم يكن بعيدا، كان تماما خلف الخط الاول للفلل الامامية، وكان فارها واسعا حديث البنيان والتأثيث متعدد الطوابق فيه عدد كبير الغرف والصالات والمطابخ، وخلفه حديقة خضراء متوسطة الحجم فيها أصناف مختلفة من الاشجار والازهار والثمار، استقبلتنا امرأة في الستين من عمرها، ومعها كلب أسود كبير كثير النباح واللهث، كان استقبالها لنا مملوءا حبا ومودة ولطفا، كانت أيضا مفتونة بحمد كثيرا، وعلى الرغم من أن التوتر والارتباك كان ظاهرا علينا بسبب الكلب، إذ اننا لم نألف معاشرة الكلاب، الا اننا استطعنا ان نتجاوز الظرف بلطف معالمة اهل المنزل، فقد أخذتنا تلك المرأة في جولة بمنزلها الفسيح، عرفت خلاله انها تشغل منصبا مهما في البرلمان وتقطن مع زوجها المحامي في هذا المنزل الفسيح ولا يوجد لديها أي أبناء، وعندما سألتها: لماذا أنشأتم بيتنا بهذا الحجم اذن؟ قالت: كانت هناك آمال كبيرة. وحين عدت اليها بالسؤال قائلا: لكنه لا يزال واسعا جدا قالت: إنما بأهله يتسع المكان.
ولوهلة شعرت أنني أمام امرأة حكيمة وذكية جدا حاضرة البديهة تنتقي كلامها بعناية وعمق، وهي الى ذلك تحمل ثقافة واسعة في التاريخ والسياسة والاديان، فقد خاض خالد معها حديثا عميقا عن الدين في دولة الخلافة الإسلامية فكان لها اطلاع واسع ورأي حصيف، لقد ألمحت إلي في حديث آخر أن على المرأة الخليجية أن تكف عن وضع المساحيق الكثيرة في وجهها، وقد مكثنا معها ثلاثة أيام سويا، اليوم الذي وصلنا فيه واليوم الثاني الذي تجولنا فيه في ربوع الجزيرة، واليوم الثالث يوم العرس..