عندما يأتي بعض الآباء الشباب لإلحاق أبنائهم بمدرستنا، يبدأون يبثونني أحلامهم بأن تكون مدرستنا مؤسسة صديقة للطفل، وليست عدوا له. وأخبرني أكثر من أب ممن دفعتهم ظروف الغربة أن يلحقوا أبناءهم بمدارس أسترالية أو أميركية أو سنغافورية أو بريطانية بأن أبناءهم يحتفلون بيوم ذهابهم الى المدرسة وينتابهم الحزن في نهاية الأسبوع، فلا يطيقون الغياب عن المدرسة التي يجدون فيها جوا مرحا وتعليما قائما على الاستكشاف واللعب ويشعرون فيها بالأمان، فلا مقارنة ولا توبيخ ولا عقاب. يجري ذلك في جو من الانضباط والجدية والمثابرة بدون تنازل أو اهمال لمستوى التحصيل العلمي. وينتابني الحزن أن أرى مدارسنا ومن بينها مدرستي لا تحقق مستوى الرغبة في الذهاب اليها، وأجتهد كل عام لكي نجعل مدرستنا مدرسة ذات بهجة، ذات فرحة، يرغب الأطفال والطلاب الكبار في الذهاب إليها. فنقيم الورش ونعمل المسابقات ونوزع المكافآت ونزرع ونزين الأماكن بالورود والزهور ويظهر المعلمون ابتسامات عريضة، وبالرغم من ذلك، نفاجأ بأطفال يبكون في الساحة وآخرين يمسكون بثياب أمهاتهم خوفا من أن يتركنهم في هذا المكان المريب بالنسبة لهم!! وبالرغم مما نعمل لكي نجعل التربية ايجابية وقائمة على التحفيز وتقدير الطالب وتبجيله وتجنب ضربه أو عقابه لفظيا، أو حتى بالإيماءات؛ فإن ثقافة التمدرس وأن من علمني حرفا صرت له عبدا، وأن من لم يصبر على ذل التعلم ذاق مرارة الجهل، و في يوم الاختبار يكرم المرء أو يهان، والأب الذي يدفع يكره ابنه للذهاب الى التعليم ويقول للمعلمين لكم الجسد لتضربوه ولي العظم. بمثل هذه الروح السائدة في عقول الآباء والمعلمين نجد كثيرا من الأطفال يمقتون المدارس ويفضلون البيوت. عندما أزرو مدارس في البلدان التي سبقتنا في مجال التربية القائمة على الوعي التربوي للعملية التربوية، أجد مدارسنا أفضل من مدارسهم وأكثر فخامة ورحابة، وقاعاتها أوسع من قاعات تلك المدارس، ومختبراتنا لا تقل جودة وتجهيزا عن مختبرات مدارسهم، واليوم الدراسي لدى بعض تلك البلدان أطول بكثير والجهد الذي يقع على الطالب والبيت كبير جدا، لكن حب المدرسة والمعرفة متغلغل في النفوس. ما السر الذي يقومون به ولا نقوم به نحن؟ اكتشفت أن ثقافة المجتمع تعتبر التعليم ممارسة فرائحية وتربطه بالإكتشاف والإثارة وأنه شأن ذاتي يقوم به الفرد بأساليب مختلفة. وأنه ليس هناك فشل، لكن هناك محاولات تليها محاولات لتأكيد الذات وتحقيق النتائج. فضلا عن ذلك فإن المعلم لا يلقن الطلاب المعلومات، ولكنه يصمم مواقف تعليمية يتم التخطيط لها مسبقا وبعناية تجعل المتعلم يقبل على التعليم كما لو أنه مقبل على رحلة ذهنية ممتعة، يقوم فيها بدور العالم الصغير الذي يجرب ويختبر ويستنتج في جو تسوده الثقة به وبقدراته بعيدا عن التوتر والتخويف والاستعجال. ويكون التركيز على اكساب الطفل قيم واتجاهات ايجابية نحو التعلم، وأن التعليم شيء جميل ومثير وممتع. ذات مرة زرت روضة أطفال في سنغافورة، في مكان متواضع، تحتل الروضة طابقا في مبنى سكني، وكانت من بين المدارس التي تم ترشيحها لزيارتها لأنها تتبع منهج المنتسوري في رياض الأطفال. وقد أعجبت كغيري بالبساطة التي تسود المكان والروح الطبيعية التي يتصرف بها الصغار، وعلمت أن المعلمين ليس من بينهم متخصص واحد في التربية أو في رياض الأطفال، فصاحب المدرسة تخرج من الجامعة في مجال الهندسة الكيميائية، وكذلك بقية المعلمات. ولكن أولياء الأمور يأتون بأطفالهم إلى تلك المدرسة وهم على ثقة بأن أطفالهم سوف يكونوا بعد عام مستعدين للالتحاق بالصف الأول الإبتدائي بل ومتشوقين لذلك.
من هنا يجب على المدارس تغيير ثقافتها تجاه المتعلمين وعلى الأسر وأولياء الأمور أن يهيئوا أبناءهم منذ بواكير حياتهم بأن المدرسة حديقة معرفة جميلة، ومكان رائع لإستمتاع واجراء التجارب والقيام بالإستكشاف.


د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية