ناصر بن محمد الزيدي
الحـمد لله رب العـالـمين والصـلاة والسلام عـلي سـيـد الـمـرسـلين وخاتم الأنبياء والـمـرسـلـين وعـلى آلـه وصـحـبه أجـمعـين، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الــدين وبـعـد:
فـلا زال الحـديث مـوصـولاً عـن مـراقـبة النفـس: فإن مـراقـبة النفـس مـن أصعـب الأشـياء، فـقـد تـغـتـر النـفـس بمـا وفـقـت له مـن الـقـيام بالعـمـل الصالح، وتـتـكـل عـلى مـا قـامت به مـن الأعـمـال سـواء تـلك الأعـمـال متعـلـقة بالصـلاة والـزكاة والصيام والحـج أو تتـعـلـق بالـصـدقات وغـيرها مـن أعـمال الـبـر، وبالتالي يـنـظـر أقـل عـمـلا منـه أنهـم لم يـبـلـغـوا مـنـزلته عـنـد الله، والحـقـيقة أنـه يحـكـم بـغـير عـلـم، ومـن الـذي طـمـأنـه عـلى قـبـول عـمله، قال الله تعالى:(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (الـمـؤمنـون 60 ـ 61).
فهـؤلاء الـذين اتسـمـوا بصفـات الـوجـل (الخـوف) والمسارعـة في فعـل الخـير فـهـم يـقـومـون بـتلك الأعـمال خـارج مـا افـترض عـليهـم، وتـلك مـنـزلة الإحـسان التي يحـبها الله مـن عـبـاده، ومـع ذلك فـرغـم الـقـيام بـتـلك الأعـمال ابتـغـاء وجـه وهـم في وجـل أن لا يـقـبـل الله عـمـله ذلك، فـكـيـف بمـن يتـفـاخـر بـعـمـله الــذي كـلـفه الله بـه، ولا يــدري أقـبـل عـمـله أم لـم يـقـبـل.
فهـؤلاء يـؤتـون غـيرهـم مـا عـلـيهـم مـن الحـق، سـواء أكانـت الحـقـوق لله تعالى كالـزكاة والكـفـارات والـنـذور والحـدود، أو كانـت متعـلـقة بالعـبـاد كالـودائـع والأمـانات والـعــدالة في الحـكـم لينـهـم، فالـمـؤمـن يـؤدي مـا عـليه مـن الحـقـوق، وقـلبه وجـل ألا يصاحـب عـمله الاخـلاص فـلا يـقـبـل.
فـكـثيراً ما يـوفـق الإنسان لأداء عـبـادة أو طـاعـة، أو عـمـل مـبرور لله تعالى، فـينتابه مـن ذلك العـجـب بـنفـسه، ويـرى أنه قـد أحـرز لـنفـسه بـذلك الـدرجـات العـلا عـنـد الله تعالى، ويعـلـو عـن الآخـرين في الـرتـبة والـمـكانة الاجـتمـاعـية، وينتـظـر منهـم جـميـعـاً تعـظـيمه وتـوقـيره، فـتـتـحـول الطاعـة مـن ذلك التـصرف إلى معـصية، ولا يـبقى له مـن تلك الطـاعـة إلا غـلافـها، أنـه ما عـمـل تـلك الأعـمـال إلا مـن أجـل أن يـقـال بأنه مجتهـد فـقـد قـيـل، قال الله تعالى:(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكـهـف ـ 110).
وكـثيرا مـا يـتـورط الإنسان في معـصية، فـينتابه مـن ذلك شـعـور بسـوء حاله وتعـرضه لـعـذاب الله ومـقـته، ويـعــود إلى نفـسه الأمـارة بالـسوء، وقـد تـلـبـس بتلك الـمعـصية، فـيرى أنه شـر الناس كلهـم، فـيغـبطـهـم لـما يعـتـقـده مـن حـسن حالهـم بالنسبة إلى مـا يـعـلـم مـن سـوء حاله هـو.
وكان مـن الـمأمـول أن يـبـادر إلى الـتضـرع والخـضـوع والانكسار إلى الله مـقـابـل الـذي انتابه مـن الـمـعـصية أو الـمعـاصي التي تـورط فـيها، شـفـيعـاً لسـوء حاله، وأن يجـعـل ثـوابه لله وانكساره وافـتقـاره وعـون الله له أكـثر مـن عـقـاب عـصيانه، فـلعـل الله يـغـفـر لـه بـذلك الـذي قـدمه مـن الانكـسار والتـضرع إلى الله.
لـعـلك تـقـول: فـهـل الـطائـعـون كلهـم يـغـتـرون بـطاعـاتهـم ويـعـجـبـون بها؟ وهـل العاصـون كلهـم يتألـمـون لـما تـورطـوا فـيه مـن العـصيان، وتقـودهـم معـاصيهم إلى الـتــذلل والانـكسار لله؟.
والجـواب: أن كل إنسان مـعــرض، إذا وفـقـه الله لـلـقـيـام بـبعـض مـن صالح الأعـمال لحـديث الـنفـس الأمـارة بالـسوء، والتي مـن شـأنها أن تـبعـث صاحبها عـلى الـوقـوع في كـثـير مــن الأفـكـار والخـواطـر التي قـد تحـبـط الأعـمـال، فاقـتضى الأمـر أن يأخـذ العـامـل أيا كان ذلك العـامـل حـذره، وأن يـكـون رقـيبا عـلى نـفـسه مـراقـبة شـديـدة، كي لا يتـسرب إليها شيء مـن تلك الخـواطـر.
وإنـما يأتي الـكلام تـذكـيراً لهـذا الـواجب، وتـحـذيـراً مـن الانـسـياق وراء أنانيـة النـفـس وأهـوائـها، وهـو واجـب يشـمـل الـمـسـلمـين جـميعـاً، لا يتمـيز في ذلك بعـض منـهـم عـن بـعـض.
وقـد ورد في الأثـر أنه كان في عـهـد بعـض أنبـياء بني إسـرائـيـل رجـل اشتهـر بالعـبادة والـزهــد، وكان يـلـقـب بعـابــد بني إسـرائيـل، وكان في الـعـصر ذاته رجـل فـاتك مسـرف عـلى نفـسه، حتى أنه كان يـلـقـب بشـقي بني إسـرائيـل.
قالـوا: فـلـقي الـرجـل الـشقي الـعـابـد ذات يـوم في طـريـق له، فحـدثـته نفسه أن يـدنـو فـيسلـم عـليه آمـلا ًأن يـنال رحـمة مـن الله تعالى بـقـربه مـنه وسـلامه عـليه، ولـما أقـبـل الـرجـل الـشـقي إلـى الـرجـل العـابـد، لـيسـلم عـليه متأمـلاً راجيـاً الـرحـمة والـمـغـفـرة مـن الله بشـفاعـة ذلك العـابـد الصالح، انتهـره الـعـابـد وأمـره بالابـتـعـاد عـنه مخـافة أن يـنـاله رشـاش، مـن مـقـت الله تعالى وغـضبه عـلى الـرجـل الشـقي، فـولى الشـقي خـائـباً منكـسـراً.
قـالـوا: فـأوحى الله إلى النـبي الـذي كان في ذلك العـصر، أن قـل لـكل مـن العـابــد والشـقي أن يسـتـأنـف كل واحـد منهـما حـياته مـن جـديــد، فـقـد أحـبـطـت للـعـابـد عـبـادته ومحـوت مـن حـياة الـشقي أوزاره.
ولا ينـبـغـي أن نشـغـل أنفـسـنا عـن مـدى صحـة الـقـصة أو عـدم صـحـتها، فـهـو كـما يـظـهـر أنـه مـن الإسـرائـيلـيات التي لا يـستـبين فـيها الصحيـح مـن الباطـل، ذلك لأن الـمعـنى الــذي يتضـمنـه هـذا الخـبر صحيح دون ريب، فالـطـاعـة لـيست عـبارة عـن مجـرد الأفـعـال والحـركات التي تقـوم وتتجلى عـلى الأعـضاء، وإنـما هي الحـال التي تـتـلـبس بمـشاعـر الإنـسان مـن الخضـوع لـسـلطان الله وحـده، فـيـبرأ بـذلك مـما قــد يخـيـل إلـيه مـن حـوله وقـوته، وتـنـصرف آمـالـه ومخـاوفـه عـن الـناس كلهـم إلى الله وحـده.
وتحـت تأثـير هـذه الحـال، فـلا شـك أن أعـضاؤه تنقـاد إلى أداء ما افـتـرض الله عـلـيه مـن الـواجـبات، وإلى الانتهـاء عـما حـذره مـنه مـن الـمحـرمات، فـتـكـون الطـاعـة، إذن: مـزيـجاً مـن هـذه الحال الإيـمانية والـتـوحـيـدية، والأعـمال العـضـوية الخاصة لـما ينبـغي أن تـتحلى به مـن الشـروط والأركـان والآداب، وهـيهـات أن يكـون الـمسـتـكبـر بـطاعـته أو الـمـدل عـلى الله، أو عـلى عـبـاد الله بـقـرباته وعـباداته مـتحـقـقا بـهـذه الحـال التي هـي أساس الـطاعـات وروحـها.
.. وللحـديث بقـية.