د . جمال عبد العزيز أحمد :
الحج ـ كما هو في كتب المعاجم ـ يدور حول القدوم، والقصد، حيث يقصد الحاج به الذهابَ إلى بيت الله في وقت محدد، للقيام بأداء مناسك محددة، وشعائر خاصة، في زمن محدد لتحقيق غايات محددة، ومقاصد شرعية بَيَّنَها الله ورسوله، وهذا يعني أن كلَّ حركة وكلَّ تصرف من أعمال الحج وشؤونه ينبثق من مبدأ، ويرمي إلى غاية، ويستهدف ترسيخ قيمة عالية من قيم الإسلام التي تسعى إلى الارتقاء بالسلوك الإنساني ليكون سلوكاً قويماً، ينفع الحياة، ويسعد الأحياء، فكل القيم ربانية، والتعاليم السماوية، ليست مجرد اعتقادات قلبية فقط، أو معان ذهنية فحسب، وليست تلك القيم الإلهية مثلا في عالم الخيال، لا أثر لها في واقع، ولا سبيل إلى تطبيقها في عالم البشر، لكنَّ قيم الحج وكل قيم الدين لا بد أن يكون لها أثر كبير في حياة المسلم، وهو التحدي الأكبر، الذي يكمن في أن نحوِّل ما في القرآن والسُّنَّة إلى سلوك، وواقع، وتعامل سامٍ، ورافع، وإن المسلم الصادق هو الذي يعرف القيمة والسلوك، فيسارع إلى الامتثال إليه، والاقتداء به، وجَعْلِهِ طبيعة لديه، وفطرة كأنما هو هواء يتنفسه، ودمٌ ساخن يسري في عروقه، لا يمكنه الاستغناء عنه، ولا الابتعاد قيد أنملة عنه، وهذه القيم هي التي نستصحبها لابد أن ترى في المواقف العادية، والممارسات اليومية، والسلوكيات الإنسانية.
إن الحج بقِيَمه وأخلاقياته وأعماله وما وراءها من مقاصد وغايات، يجعل المسلم إنسانًا كبيرًا عند الله، وعند الناس، فعندما يترك المسلم أهله، ووطنه، ومكانته، ومنزلته، وجميل هندامه، وراقي ملبس ليتنازل عن ذلك كله ليلبس قطعتي قماش لا خياطة فيها، ويترك كل ما يملكه لربه، معلنا تمام العبودية له، وكمال الخشوع لجلاله، وشامل الخضوع لأوامره، فيلتزم بارتداء زِيٍّ خاص، وتكرير تلبية خاصة، وإتيان أعمال خاصة، والذهاب إلى أماكن خاصة، وتقبيل حجر، واجتزاز شعر كان هو قمة جماله، وموضع اهتمامه، ورمز وسامته، كل ذلك يتركه لربه ومولاه، أليست تلك عبودية كاملة، وإخباتاً تامًّا، يفعل الحاجُّ ذلك مع دموع وبكاء، ونقاء من القلب، وصفاء: أن يقبله الله، ولا يرده، ويدنيه ولا يُقصِيه، إنه الحج إعلان عن تمام العبودية، وكمال الانصياع، وجلال العلاقة بين عبد فقير، ورب غني جليل ، بين إنسان محتاج، ورب صمد توَّاب، بين قلب ضعيف، ورب كريم قوي، قادر، مقتدر، وحليم لطيف .
إن الحج يعلِّمنا كذلك مبدأ المساواة؛ حيث يكون جميع الخلق متساويين: لبسًا، وتلبية، وبدءًا، وانتهاءً، وأذكارًا، ودعاءً، ووقوفًاً، وتنقلاً، ورميًا، وتقبيلاً، وطوافاً، وسعياً، وحلقاً أو تقصيراً، لا فضل لأحد على أحد، ولا يتقدم رجل لكونه أميرًا أو يتأخر رجل لكونه فقيرًا، أو يُحْمَل رجلٌ لأنه غني، ويُترَك آخرُ لكونه من الدهماء، هذا ليس من شعائر الحج، فكل الحجيج متساوون في كل شيء، اللهم إلا التقوى، وخوف الله، وإجلاله:(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، والحج أكبر مقاصده التقوى (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)، ونحو:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ*وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة ـ 197).
وحتى يعود الحاج غنيًّا كان أو مالكاً أو أميراً أو رئيساً أو مديراً أو عميداً، يعود بهذه القيمة الكبيرة، وهو أن الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، فيستصحب هذه القيمة طيلة العام ، فإذا ما جاء الشيطان ليجعله متكبراً شامخا بأنفه تذكَّر أن الحاج علَّمه أن المساواة بين الناس فرضٌ، وأنه لا مزية لأحد لكونه غنياً أو فتياً أو صفياً لأحد الكبراء، وإنما المعيار الأسنى، والمقياس الأسمى هو درجة قربك من الله، ومدى حبك له، واتباعك لكتابه، وسُنَّة حبيبه، ورعايتك له: سراً، وعلناً، إقامة، وسفراً، حلاً وترحالاً فرحاً وغضباً، غنًى وفقرا، صحةً ومرضًا . كما يعلمنا الحج كذلك ـ من بين ما يعلِّم ـ أن الأخوة مشاعٌ بين البشر ، وأنه لولا هذا الإسلام الجميل لأكل بعضنا بعضا، وعذَّب بعضنا بعضا، كما كان يحدث قبل الإسلام، لكنه الحج يعلمنا مبدأ ساميا هو (إنما المؤمنون أخوة) .. هكذا بأسلوب الحصر والقصر، أي لا إخوة إلا وتؤدي إلى إيمان ، ولا إيمان بغير أخوة، وأن الإيمان وحده هو الكفيل بإقامة، بل معاني الأخوة الحقة ، وأن كل أخوة بغير إيمان هي لعب، ونخب هواء، لا وزن لها، ولا لون، تماما كالماء، إن الحجاج جميعاً يجلسون على الأرض في مكان واحد، وهو عرفة، وفي جُمَع (مزدلفة)، ويفترشون الأرض، ويجمعون الحصى من الأرض؛ تمهيدا لرمي الجمار ، كما أنهم يمشون في عرفة بلا تفاخر، ولا تمايز، وكل ما تراه من تمييز لبعض الشخصيات إنما هو من قبيل الخوف عليهم فقط، كالرؤساء، والسلاطين، والملوك، لكنك لو سألتهم شخصيا لأجابوا: نود أن ندخل في غمار الناس، وألا نتميز على أحد تحقيقاً لجلال الأخوة، وكمال الوصال، وأن الله وحده هو الكبير المتعالي، صاحب الكبرياء في أرضه وسمائه، وقلوب عباده وأوليائه ، ونفوس خلقه وأصفيائه، إن الطواف يجمع الناس جميعاً أبيضَ وأسودَ، قويًّاً وضعيفًاً، كبيرًا وصغيراً، وبدينا ًونحيفاً، ذكراً وأنثى، عربياً وأجنبياً، بلا تمييز لكون الأخوة هي الأساس، وتجد كل واحد يحب أخاه، وتنشأ علاقات طيبة بين الناس من مختلف البلدان، والعواصم، وتباين اللغات، جمعهم الحجُّ، وعلَّمهم جلال الأخوة، وجمال التواصل، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، إن من أكبر قيم الحج ـ كما سلف ـ الأخوة، والوحدة، والتعاون، والعبودية الحقة، والخضوع الصادق لله عز وجل والمساواة التامة بين البشر: ملبساً، ومظهراً، ومخبراً، ولفظاً، ومعنى، وشكلاً، ومضموناً.
نسأل الله أن يعلِّمنا مقاصد الحج، وقيمَ الفريضة، وأن نعود مغفوراً لنا جميعًا، اللهم تقبل حجنا، وآتنا سؤلنا، ووفق خُطانا يا رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]