أسماء الشامسية:
استيقظ بطلنا مفجوعًا، عندمَا وجد نفسه إنسانًا مهمًّا فجأة. عرف ذلك من لجة الأصوات في الخارج، وعاصفة من التهاليل التي تهز جدران غرفته، وتلك الهتافات باسمه هنا وهناك، حتى أنه شعر بثمّة من يتحرك في ردهات المنزل ويوشك أن يقتحم حصنه المنيع، وها هو ذا فعلاً:يدفعُ البابَ قطيع متحمس من المعجبين والمؤيدين. أيادٍ ترفعه من منكبيه، وأيادٍ تنزع عنه غطاءه، وأيادٍ عرفت طريقها إلى قدميه. وما عرفَ أنهم يحملونه إلا حينَ شعر بجسده يبتعدُ عن السرير، محمولاً على الأكتاف.

هممم لا لا وكأنّ ثمة مبالغة في استهلال القصة، أين حدث وأن حُمل إنسان بعد اقتحام منزله حَملَ الملوك؟ هممم قلنا أنه إنسان مثمّن وذو قيمة لكنه حتمًا ليس يوليوس قيصر. ليس إلى هذا الحد، نعم ليس إلى هذا المستوى. ولو افترضنا أنه لم يُحمَل فهل نقول أنه رُزح رزحًا؟أو دفعَ من السرير؟فبمَا أنهم جماعة فلاشك أنه هُرِسَ مثل عجينة، أما فهذا السياق فإن لم يكن احتفاليا فهو دونيٌّ تمامًا، أسلوب الحمل يروقني أكثر.فلنبقه أحسن، ولنقل أنه حُمل نائمًا بتروّ.

وهم إذ يحملونه لم يجد بدّا من أن يشعر بالزهو؛ فالسبب غير معلوم، لكنّه أيضًا ليسَ تتويجًا على سبيل الخطأ، فهؤلاء جماعة كثيرة العدد والرّب وحده يعلم إن كان ثمة منشور تعيين أو مرسوم تكليف أو تشريف لم يطّلع عليه بعد. ثم مشوا به عبر البهو وأحضروا له ثيابًا أنيقة، دشداشة ومصرًا فاخرًا وخنجرًا باهظ الثمن. ألبسوه، ثم شذبوا لحيته، وحلقوا شاربه، فأبان عن شبابٍ غض.

اممم لنفرض أنهم سيحملونه بعد ذلك إلى باحة المنزل ويقذفون به هناك، ستكون أشد طُرَفي إضحاكًا. اممم لنقل أنهم حملوه حمل الملوك فعلاً ثم قذفوا به داخل سيارة فارهة، وكان احتفاءً حقيقيا بشيء ما، شيء لا يعرفه ولن يعرفه حتى نهاية القصة. آها هكذا نجعل النهاية مفتوحة. ولكن لحظة لابد أن نحبك ونعقد جوهرالقصة أولاً، مالنا والنهاية، لمَ العجلة؟

وهو إذ يُحمل على الأيادي حدّث نفسه، لعله يحلُم، أوربّما أصبح إنسانًا مهمًّا حقا، "إذ لاتهم الظروف بقدرما تقود إلى نهايات مثالية، سواء أصبحتُ اليوم مسؤولاً كبيرًا أو رجُلاً وجيهًا يُحسب له ألف حساب، فعلي أن أتقمص الدور ولا يعنيني كيف أصبحت كذلك ومتى، إنها أسئلة متفلسفة وأنا لستُ إنسانا حزينا غارقا في تأملاته، إنني أعرف قدر نفسي فأنا لستُ ظلا ولا وهمًا ولا عاثر حظ كي لا أتوّج".

الآن بما أن بطلنا اقتنع بالموقف الذي وضع فيه، فلابد أن نقحمَ به في قلب الحدث ونمنحه صلاحياته وممارسته الفعلية لمواقفه، لكن قبل ذلك علي أن أفتح النافذة قليلا.أشعر باختناق الهواء في الغرفة، لعلي متحمس بعض الشيء للأحداث الكبرى القادمة، أو لعل الفكرة نفسها تربكني.لا بأس علي، قليل من النفس العميق.الآن قلبي سليم.تنفسي منتظم.لحظة!لو جعلتُ من بطلنا إنسانًا خارقًا وألبسته كل الصفات التي تجعله إنسانًا ذا كرزيما وشخصية متوقدة وعقلا بارعا، فلابد أن أوضح للقراء لماذا عليه أن يكون كذلك أولا، ومالم أجد أسبابًا مقنعة سأصنع منه حفنة حثالة يرمى بها في مردم نفايات!هممممم لعله من غير الإنصاف ألا نجعل بطلنا يمر بمتوالية من الأحداث الطبيعية التي تجعله خارقًا، لابد من توضيح، فالقارىء ليس غبيًا ويفهم.

- هيه أنت انتبه! لحظة من فضلك!أنت تكتبني.لم نقل شيئًا، تصنعني كيفما تشاء، مُتّفِقَان! لكن ليس عليك أن تنبش في جذوري من أجل إهانتي.أنا سعيد بمستوى السعادة الذي أوصلتني إياه.

- آها، هَب أنني لم أجد لك أسبابًا تقنع القارئ بحظك في هذا الشرف الكبير، ما عساي أفعل؟

- ولماذا عساك لاتجد؟ أنت كاتب عظيم ويمكنك إيجاد أسوأ الأسباب لأفضل الظروف.أرجو ألا تجعلني مهرجًا في حكايتك.أخشى السقوط في الوضاعة.أخشى أن يرميني الناس في مستنقع لا قرار له، فـ..فكيف بعد هذا الاحتفاء تجعلني أضحوكة؟ أين حدَث وأن أخطأت الجموعُ بيتَ رجل يكاد أن يُحتفى به؟ من أين لك عدم المعقولية هذه وكل هذا الكذب على أبطالك؟ هذا فخ.. ايه هذا فخ ايه والله إنه لفخ.

إنه ولمن غرائب الأحداث أن يشعر بطل القصة بالزهو والبَطر، ويرفض من مؤلفه الكاتب أن يوضح للقراء السبب الذي من أجله تُوّج، فقد رأى في تدخل الكاتب شرح وتوثيق حياته من الألف وحتى الياء استسهالاً لمسيرته في الحياة التي يجب أن تتسم بالخصوصية، ولا يجب على القراء معرفتها، إذ أبدى البطل امتعاضًا من طريقة معالجة الكاتب للنص؛فليس من حق إنسان كائنًا من كان التدخل في إعادة سرد تفاصيل حياة إنسان آخر يعرف عنه كل شيء، حتى لو كان هذا الشخص هو أمه.وقد كان رفضه بدافعٍ من حقه في التحفّظ لا بدافعٍ من الحفاظ على دهشة القصة إن لم يعرف القراء السبب.وهذا التدخل غريب علينا في الأدب عمومًا.أما الكاتب فقد شعر بالعجز من عدم قدرته على السيطرة على مشاعر البطل، وأبدى ندمه من فكرة تتويجه من الأساس، فضلا عن كونه أكثر أبطال قصصه عنادًا.اعتبر الكاتب تصرّفه انقلابًا على النص، وأن البطل تدخل تدخلاً سافرًا في تقرير مصيره بينما هو لا يملك نفسه ولا حتى حياته.أما اعتراضات البطل بحقه في الرفض حتى مع كونه شخصية تم تأليفها، فكانت مقاومةً لم تجدِ نفعًا.لقد كان تعليل الكاتب لهذا الأمر أنانيًا، وغريبًا ومتطرفًا، حتى لو لم يحق لنا التحيزلأحدهما.
عندئذ كان الجمع يحملونه ويقذفونه في الهواء ويعودون إلى التقاطه مجددا.كان الحدث متوقفًا عند هذا المشهد، فالناس بدأوا يتذمرون من توقف الزمن وبطء الأحداث.كان على الكاتب أن يتصرف، أن يمنحهم معنىً لما يفعلونه في الحال، فحكايته كلها مشتتة ويعوزها الربط والتأويل، فالناس قد تشعر باللاجدوى من هذا السلوك الضارب في التهريج، فهم أنفسهم بدأوا يستسخفون موقفهم هذا، حتى مع كونهم شخصيات ثانوية.
ها أنا أقرّر ! سأدعهم يتخلون عنك ويعتقدون أنهم أخطأوا المنزل، وبهذا تكون قد لقيت حظك من التعاسة كما يجب.إنني منذ أصبحت كاتبًا لم أجد من بد عدا أن أكتب نفسي.أأنت المُتخيل أحسن حظا مني أنا الحقيقي؟يقتحمون بيتك من أجل تتويجك بغيرما سبب فيما أعفنُ أنا في هذه الغرفة ذات الجدران الإسمنتية الغليظة، لا أجد متوجا حتى لسطر أكتبه؟ ثم إن هالة الأهمية التي منحتك إياها منذ البدء، ضخمت نفسك العمياء التي تحسب أنها تصنع في حياتها شيئًا ذا معنى، فأي شيء أنت حتى تُحمل حمل الملوك ها؟، إلا إذا جعلتك ملكًا أهبلَ متوجًا على جماعة من المهبولين أمثالك؟!
- ايهِ وربي إنك مظلم الروح!أي حسد هذا؟ ظهري يؤلمني وأنا لست في عمر يحتمل كل هذا الرفع والهويان السريع.بالله عليك ألّف أحداثًا أفضل، ورحمة والديك، ابحث عن مسارآخر ودع عنك حسدك.ماذا سيقول عني أبطال القصص العالمية؟ إنها فضيحة بجلاجل!أستجديك يا حبيبي يا كاتبي يا صانعي، إذ من هو الآدمي الذي يمكن أن يتخيل لنفسه حالاً أسوأ؟ لابد أن يتخيل المرء حالا أفضل بل بأفضل حال، أم أنك عازم أن تجعل مني مثل أبطال إدغار آلان بو، جماعة من البؤساء المُروَّعين؟

وهنا رمى الجمع الغفير بالرّجل المُتوج من علوّ.سُمعَت فرقعةُ عظامه وأحس بها تتحطم. (كان يمكن للكاتب أن يخفف من حدة السقوط بالمناسبة).بل ونزعوا عنه البشت.وتقدم أحدهم بيدين غليظتين وكاد أن ينزع رأس بطلنا فيما ينزع عنه عمامته الباهظة. (فإلى هذا الحد من القسوة كان الكاتب).ووجد بطلنا نفسه ملقىً على قفاه، مرتديًا فانلّة وإزارًا؛الثياب نفسها التي حملوه بها من على السرير.يعتصره الألم والخزي، ويشعر بالإهانة جائلةً صائلة في أنحاء بدنه، مع إحساسه بجرح غائر لن يندمل، فيما احمرّت صفيحة وجهه وذرف دمعة على مُلك الغفلة الذي غادره للتو، متحسبًا داعيًا بالويل على الكاتب الذي لم يحفظ له كرامته وهو يردد: "أنت لا تحافظ على أبطالك.أنت تزدريهم لأنك تتقمصهم كلهم.لأنك لا تستطيع أن تجد نفسك خارجهم. يالك من شخصية ذات إحساس مُوغِلٍ في البؤس والنقص"!

وبينما كان مستغرقًا على حاسوبه الآلي يتفنّن في ازدراء أبطال حكاياته، شعر بحركة حواليه.أدهشه وجود بطله مرابطًا خلفه بهيئةٍ رثّة، يعلورأسه شعرٌ أشيب.ترتسم على وجهه لحية صقيلة، يبدو أنها شذبت اللحظة.وإذ تلفّت الكاتب خلفه إذا بضحكة مجلجلة تفلت من فمه: بطلي ها أنت ذا؟ آها وأصبحت لك قدرة خارقة تفلتُ فيها من دماغي لأجدك حقيقيا ماثلاً أمامي مثل تمثال؟ أيها الفكرة، محض فكرة! وااو صفقوا له.. يا حبيبنا أنت!حيّوه!قدمّوه كبطل روايات خارق.ها هو ذا بطلي!
وفيما كان الكاتب يستغرق في الثرثرة أكثر، وضع البطل يده على قابس الكهرباء الذي يزود الحاسوب بالطاقة، وبمنتهى الثقة شد على القابس كما لوأنه يقول: هاك أنظر إنك لا تجرؤ حتّى على حفظ ما تكتب.
قفزت عينا الكاتب من جحريهما وتبدل لونه في ظرف ثوانٍ فأصبح في لون لفاع الحسناء الأحمر، وبثقة الملك المخلوع عن العرش الذي يستعيد معنوياته من آخر ما تبقى له من دعم حاشيته، نزع البطل القابس عن مصدر الطاقة وقال: لن تنشر هذا النص.
انطفأت الشاشة، وانجذبَ البطل مثل خيط رفيع من الضوء نحو مكان ما في الحاسوب، وانجذب معه النص، مثل كل نصوص الكاتب التي يشعرعبرها أنه لم يحظَ بتقدير نفسه لينشرَ شيئًا مثل هذا.