جمال النوفلي:
في الليلة الأولى خرجنا الى تناول العشاء في أحد المطاعم الواقعة في وسط المدينة بجانب القناة المائية الضيقة جدا التي تفصل الجزيرة عن اليابسة، والتي يعبر فوقها جسر مخصص للسيارات والمشاة، وعلى الضفة الاخرى قلعة بيضاء كبيرة تتألق بألوان زاهية وباهية، وكانت المياه تجري برتابة وهدوء وسكون وأنا أتأملها متعجبا من تغير اتجاه جريان ماء القناة بين الخليجين كل ست ساعات، هل يمكن أن يكون دور هذه القناة هو المحافظة على توازن الارض؟! قد يكون ذلك، وفي تلك الليلة ذاتها أخذت هيلين تسألني عن سبب زيارتي لليونان، التي جعلتني أنقل لكم قصة هذه الرحلة في هذا الملحق الاسبوعي..
وفي اليوم الثاني أخذتنا هيلين إلى شاطئ جبلي يقع في أقصى الجزيرة، حيث دعت أعز أصدقائها وصديقاتها لرحلة أو حفلة وداع العزوبية، وهي عادة عند الغربيين أن يقوموا حفلة وداع لأصدقائهم قبل دخول قفص الزوجية، أما عندنا فليس هناك داع لمثل هذه الحفلات فأصدقاؤك لا ينفكون يلاحقونك طوال حياتك يفرضون عليك الولائم لأي مناسبة كانت منذ ولادتك وحتى مماتك بل إنهم سيشربون نخب موتك في العزاء.
أما هنا في اليونان فقد كان حفل توديع الاصدقاء مختلفا، لقد جاء أصدقاؤها وصديقاتها مع قرنائهم من مختلف الجزر اليونانية ليتمتعوا بالمنظر الجميل في هذا الشاطيء الساحر العجيب، دون أن يبذلوا فيه أي نفقات للطعام والشراب، وأنا عندما وصفت الشاطيء بالساحر العجيب فإني لم أصفه اعتباطا فهو فعلا كما وصفت، هل حصل أن رأيتم صورة لقارب يسبح فوق بحيرة نقية صافية صفاء يمكن من خلاله أن ترى الاعماق والمرجان في قاع البحيرة، وأن ترى ظل القارب وهو يتراقص في العمق مقطعا بتمايلات الموج، إن هذا الشاطيء هو إحدى هذه العجائب، لقد كنت أرى كل شيء في الاسفل عندما غطست برأسي فيه، كنت أرى أصابغ قدمي بوضوح تام وأرى بعض الاسماك الصغيرة وأرى الاحجار والاصداف وأرى سيقان الاصدقاء الذين تعرفت عليهم توا، كل شيء كان واضحا جدا، وقد ابتعدت معهم في السباحة الى مسافة لم يسبق لي أن سبحت مثلها، لكن بعض الرفقة تغريك إغراء يستحيل معه الرفض وتهون من أجله الأهوال.
وفي صباح اليوم الثالث يوم الزفاف صحوت مبكرا كالعادة، فوجدت المحامي العجوز صاحب المنزل واقفا عند الدرج يتكلم بغضب وصوته يملأ الارجاء، هو لم يلتق بي ولم يتحدث معي قط منذ وصولنا، ولم يبد أي رأي ترحيب أو رفض منذ أن رأيناه في اول يوم، لذلك كنت أخشى أنه يكرهنا أو أنه أحد الشخصيات الأنانية الوقحة التي تجرك الى الوقاحة والى إفساد يومك، وعندما رآني تلك اللحظة خارجا من الغرفة استمر في تحدثه، وأجلت بعيني في المكان فلم أر أحدا هناك فأصابني العجب، هل كان يحدث نفسه؟ كان المنزل مؤثثا أحسن تأثيث ومزينا بلوحات أوربية وتحف فنية من مختلف الثقافات وبعض الاسلحة، لقد اقترب مني وصار جليا انه يكلمني الآن، وتحدثت اليه بالانجليزي وكنت أعلم أنه لا يتحدث الإنجليزية ولكني تحدثت لأنه كان يتحتم علي أن أقول شيئا أي شيء حتى لا أبدو كالغبي. وعندما فرغ من حديثه معي ذهب، وذهب ارتباكي، ثم لم أخرج من غرفتي مبكرا بعد ذلك.
بعد الغداء لبسنا أفضل ما لدينا من ملابس مهذبة ولائقة لمناسبات الزفاف، ولمثل هذه المناسبة عليك ان ترتدي، ان كنت تشعر إنك أحد الرجال المحترمين النبلاء، عليك أن ترتدي بدلة رسمية، والبدلة الرسمية هي تلك تفصلها من الخياط أو تشتريها من محلات خاصة بها بنطال أزرق أو أسود مع جاكيت من ذات القماش وتحته قميص أبيض طويل الكم وتربط حول عنقك ربطة عنق ذات ألوان متعددة ولك الخيار في اللون فهي الجزء الوحيد الذي يمكن من خلاله أن يتميز الرجل ومنها تعرف شخصيته، وهي لا تقل أهمية ولا صعوبة عن الطريقة التي يلف بها المصر بالنسبة للعمانيين، وقد كان حمد هو الشخص الوحيد فينا الذي ارتدى كامل البدلة وبشكل لائق، أما أنا وخالد فقد اخترنا أن لا نلتزم بالزي الرسمي بذلك الشكل الصارم الذي يلتزم به سائر اليونانيين، وإنما اكتفينا بقدر معتبر وكاف من الأناقة والإحترام، متعللين بأننا من ثقافة أخرى وحري الا ينطبق علينا ما ينطبق على غيرنا من أصحاب المكان. أما الفتيات فإنهن يكتفين بارتداء أفضل فستان لديهن في دولاب المنزل دون ان يضطررن الى شراء فستان جديد لكل مناسبة كما هي العادة لدى معظم فتيات بلدنا، إن لدى اليونانيين نوعا من اللباقة الأدبية في مناسبات الزفاف، فالمتعارف عليه عندهم أن على المعازيم أن لا يبذلوا في تزينهم وتأنقهم ما يفوق زينة العريسين، وهذه أيضا عادة حسنة.
لقد تقرر ان يكون العرس في كنيسة صغيرة تقع في أعلى جبل (كالديه) وهو أعلى جبل في الجزيرة، وعندما سألت هيلين لماذا لا تتزوجان في الكنيسة القريبة من منزلكم قالت: إن العرس هو إحدى أهم المناسبات في حياة الانسان وجرت العادة لدينا أن يتم اختيار أجمل الكنائس وأكثرها عراقة وقدما لتعطي انبطاعا جميلا يبقى أثره اللطيف على المعازيم وعلى العريسين أيضا. وقد كانت الكنيسة بعيدة جدا في إحدى القمم العالية من الجزيرة حيث يمكن رؤية بحر إيجه والجزر الأخرى، الوصول اليها بالسيارة عن طريق شارع صغير يمر بين الأشجار الكثيفة ووسط البيوت، وكأنك تصعد الى جبل شمس سوى أن الخضرة والجداول في كل مكان، وعندما وصلنا وجدنا ان الكنيسة صغيرة الحجم منحوتة في جوف الجبل، تظللها أوراق الشجر من كل جانب، وهي محاطة بمنحدر عميق متدرج مملوء بالأشجار الجبلية المتسلقة واشجار البلوط والبندق واللوز والجوز، وهناك مطعم متربع على الضفة المقابلة من المنحدر، وشلال صغير ينحدر من الجبل بين المطعم والكنيسة وبشكل متدرج جذاب على صخور ذلك المنحدر ليختفي بعيدا في الأعماق، ولا يمكن الوصول الى هذه الكنيسة إلا عبر جسر معد لأجل ذلك يصلها بالمطعم، وكنت أقف على هذه الجسر أتأمل في الازهار والورود الطبيعية التي تنتشر في كل مكان، هل هي من عمل الطبيعية أم تم زرعها هنا من أجل الزينة! ثم فجأة داهمنا قطيع من الماعز الجبلي أربكته السيارات والناس ولم تعرف البدوية الجميلة التي كانت ترعى ذاك القطيع كيف تعيد الماعز إلى الطريق فقدمنا لها العون، وقد تعجب الحضور من قدرتنا على التعامل مع الماعز، ثم جاء العريس ثانيوس وهو في كامل زينته وقد شذب لحيته على أحسن ما يكون، حتى نظارته الطيبة لم تكن على أنفه ذاك المساء، كان الوقت عصرا وفتيات الجبل اللواتي كن يبعن بضاعاتهن من منتجات الجبل من الورود ومدقوق الزعتر والعسل والاجبان والمربى والزيتون وأشياء أخرى مطحونة لم أتعرف عليها كن قد شرعن في تجميع أغراضهن استعدادا للرحيل، وما هي إلا لحظات حتى وصلت العروس، لقد جاءت في سيارة فخمة من نوع موريسيدس كان يقودها العجوز المحامي نفسه، وربما كان يجدر بي أن أخبركم أن هيلين عاشت وترعرت في منزل هذا الرجل وزوجته فهي بالنسبة لهم كأنها ابنتهم أو هي ابنتهم حقا، وعندما فتح الباب هدأت الأصوات وحل سكون عجيب على المكان، حتى الخراف توقفت عن الجري والرغاء كانت جميع الأنظار متحولة الى هناك حيث ترجلت العروس متثاقلة بأثوابها حاملة في يدها باقة ورد أحمر ودست يدها بين يد أبيها ومشى، كانت أميرة في الحسن ملكة في الجمال تزين شعرها الخمري بتاج ذهبي صغير وتركت أهدابا من شعرها تنساب خلف عينيها دون أن تغطيهما لتلتف بشكلو حلزوني عند خدودها البيضاء التي لم يتم صبغها بأي نوع من الالون، أجل لم يكن في وجهها كثير من المساحيق سوى القدر اليسير الذي يمكن به الحد من البياض وشفافيته البالغة، فمن يعرفها يعرف أنها شديدة البياض لدرجة انك تستطيع أن ترى عروقها الخضراء، لقد كانت خالية تماما من كل وسائل التجميل إلا حمرة بسيطة ذابت فوق شفتيها، وقد تألقت في فستان أبيض مائل للصفرة مكشوف اليدين مطرز بالورود عند الكتف ثم ينتشر لامعا منتفخا حول الساقين حتى اسفل القدمين، وهي تمشي بخطوات هادئة ساكنة بجوار أبيها وصديقة لها قد تزينت بفستان أزرق قصير وجميل تمشي خلفها لترفع الفستان قليلا وتداريه عن الأوساخ لقد كانت تلك الفتاة تمثل دور الاشبينة، أما ثانيوس فقد كان واقفا عند باب مدخل الكنيسة الصغير ينتظر استلامها من أبيها وخلفه كان يقف صديقه انطونيوس، هل تذكرون انطونيوس الذي التقينا به في أول يوم لنا في العاصمة أثينا وتناولنا العشاء معا عند الاكروبوليس، لقد حضر اليوم أيضا ليمثل دور الاشبين لأعز أصدقائه ثانونيس، صحيح أنه شذب لحيته وارتدى بدلة متأنقة، لكن شكله لا يعطي ذات الانطباع الجميل الذي توحي به الاشبينة، على كل حال هذه هي طبيعة بعض الناس مهما بذلوا من زينة ومهما ارتدوا من ملابس ثمينة وجميلة. ثم دخلوا جميعا إلى الكنيسة، طبعا لم يدخل جميع الحضور لصغر حجمها وإنما دخل العريسان والاشبينان ووالدا العريسين ودخلت عضوة البرلمان وزوجها المحامي وأثينا أخت ثانيويس وأخوه الأصغر وامرأة عجوز طاعنة في السن والمصور وأنا، كان الراهب يقف في منصة الترتيل وبجانبه مساعده، وحينما استقر كل شيء في موضعه وعرف كل مكانه شد الكاهن لحيته الطويلة وصحح من عقوص شعره المتدلية على كتفه وفوق ثوبه المنفوش الأخضر المزركش بتقاطعات صليبية ذهبية، لبس نظارته وفتح الإنجيل وشرع في الترتيل، كان صوته جميلا رخيما وهو يرتل بلغة يونانية قديمة جعل الجميع ينكسرون خشوعا ورهبة، كان يرتل بإيمان صادق عميق وكان الناس ينصتون إليه خاشعين، وقد استمر الراهب في قراءة الانجيل أكثر من ساعة حتى أوشكت الشمس على الغروب وقد مل الناس وكلوا وبدأوا يتخاطرون ويتهامسون ويلقون النكات والغمزات، وذهب بعض كبار السن الى الجلوس على مقاعد قريبة من الجسر المؤدي الى المطعم تعبا وارهاقا، أما أنا فقد كنت مشغولا بالتصوير وتوزيع الابتسامات، وجاءت امرأة كانت قد شعرت بالملل هي الأخرى وشرعت في توزيع أكياس صغيرة جدا مربوطة بخيط ومملوءة بالارز، سألتها ما هذا؟ قالت: أرز.
وعندما انتهى الراهب من الترتيل أخيرا وقف الناس مرة أخرى، وكان العروسان واقفين طوال الوقت، وترجل من منصة الترتيل واقترب منهما وتلا عليهم مرة أخرى بعض الكلام من محفوظه وكأنه يعقد القران ويعلن تزويجه لهذين المؤمنين الطاهرين ثم رش على رأسيهما الماء المقدس، ثم أحضر مساعده بعض الاوراق ووضعها على الطاولة وأمرهم بالتوقيع فوقعوا جميعا عليها وقع العريسان والاشبينان كشهود، ثم أخذ العريس عروسه من يدها وخرج من الكنيسة الى المطعم حيث أعدت منصة للزوجين وطاولات لطعام الضيوف، وأثناء خروجهما من الكنيسة كان على الناس أن يلقوا الرز عليهما كإحدى العادات اليونانية المتبقية من الديانات القديمة، وكنت قد أكلت الرز الذي أعطيت إياه قبل ذلك أثناء ترتيل الراهب لأني اشتهيته، وكان الناس قد لمحوا ذلك واستغربوا وربما ضحكوا، إلا ان فتاة جميلة وطويلة كانت تقف أمامي لمحت ذلك فبادرت وأعطتني كيسا آخر من يدها، ومشينا خلف العروسين حتى جلسنا على إحدى الطاولات الممتلئة بجميع أنواع الطعام، وبدأت الفرقة الموسيقية بالعزف بعد أن تناول العريسان الكعكة وأكلنا وأكل الناس أكلنا من كل شيء وشربنا من كل شيء، ثم بدأ العريسان يرقصان وحدهما والناس يصفقون، ثم التحق بهم اقاربهم وأصدقاؤهم في الرقص وأنا معهم، وكانوا يرقصون رقصا يونانيا خاصا، فهم يلتفون في حلقة دائرية يمسكون بأكتاف بعض ويحركون أرجلهم بطريقة في غاية الصعوبة، وقد أسعدهم أني رقصت معهم الرقص التقليدي، فقد رقصت معهم جميعا حتى العجائز والاطفال وتحدثت إلى الجميع في تلك الليلة بالرغم من أنهم لا يتحدثون لغتي ولا اتحدث لغتهم، فقد كنت أحدثهم بلهجتي العمانية وهم يحدثونني باليونانية وكنا مع ذلك نفهم بعضنا جيدا. لقد أدركنا ان اللغة ليست الا اداة مستحدثة للتعبير وان الانسان أذكى من ان يحتاج الى لغة لفهم أخيه الانسان، وكانوا سعيدين جدا وكريمين جدا لقد وضعوا التاج اليوناني فوق رأسي، إنه تاج مصنوع من أغصان منزوعة من شجرة يونانية قديمة كانوا يضعونها على رأس المنتصرين من الابطال في الرياضات القديمة وقد فرحت لذلك فرحا كثيرا، وانتهى العرس في منتصف الليل بعد أن رقصت العروس مع أبيها رقصة وداع حزينة، وعدنا الى المنزل مجهدين متعبين وفي اليوم التالي عدنا الى العاصمة اثينا ثم حلقنا بالطائرة القطرية الى الدوحة ومن الدوحة الى مسقط ونحن نتبادل النكات عن أحلى الأيام وأجملها، محملين بالهدايا والحكايا وكثير من السعادة وكثير من المتعة وقليل من الحزن وقليل من الألم.