[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
” أغسطس غني بشهادة العديد من الفلسطينيين وموت كفاءاتهم. الشهادة واجب.. والموت حق… وما بين الاثنين… يسير الفلسطيني المقاوم بالسلاح, والكلمة. وبالرواية, والمقالة.. والقصيدة, وبالقلم والمسرحية. والإخلاص والعطاء لفلسطين من كل المواقع, وبالانتماء إلى الوطن الفلسطيني الكنعاني اليبوسي العربي الأصيل والحضن الشعبي العربي ..”

أيها السباقون إلى التضحية والفداء, يا من سقطتم فداء للوطن. نظل مقصرين بحقكم مهما كتبنا, ومهما تذّكرنا, غير أنكم مخزونون في ذاكرة شعبكم مثل لحن المقاومة الخالد, مثل النشيد الفلسطيني السابح في نسغ حروف شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية. تملأونها أملاً بربيع قادم لا محالة. تروون بدمائكم ظمأ سنديانة ظلّت صامدة عبر مراحل التاريخ, وكأنها أدركت شكل الحنين الأزلي إلى الوطن! تجسدتم في جذوعٍ سندياناتنا, خط عليها أبناء شعبنا حقيقة الارتباط بين الكنعاني اليبوسي العربي تاريخاً والفلسطيني حاضراً ومستقبلاً, وبين الانتماء للأرض العربية الفلسطينية الطاهرة. أنتم أيها النابضون عشقاً لثراها!ندرك أن حبات ثرى فلسطيننا التحمت مع أجسادكم, يا شهداء شعبنا,عبر التاريخ ومع احورار مآقيكم لتكون مصدراً للصلابة الساكنة في أفئدة مناضلينا.أعداؤنا, لا يدركون حقيقة عطاء الفلسطيني حيًّا أو شهيدًا, فأنتم باستشهادكم تظلون أحياءً تسكنون تجاويف القلوب … تظلون منبعًا أصيلًا للعطاء الأزلي ومعركة التحرير النهائية , تغيبون شكلًا وتظلون مضمونًا مثل قوس قزح, ما أن يغيب, حتى يظهر مرةً أخرى, وهكذا دواليك.
وإن أخص بالذكر صديقي وقائدي أبو علي مصطفى ,لأنه وفي مثل هذا اليوم تمر ذكرى استشهاده في السابع والعشرين من أغسطس2001 . قبل سفرك إلى الشهادة, مررت علينا في البيت, وقلت لي أنك ستزورني في عيادتي لشأن خاص, وزرتني فعلا. تحدثنا طويلا ثم انطلقت بك السيارة. إنها المرة الأولى التي خرجت من عيادتي لوداعك في الساحة القريبة حيث السيارة ومرافقك. وكأني بك وبي ندرك أيها القائد الصديق, أنه سيكون لقاءنا الأخير! بعدها بأيام فجّروك بصواريخهم الجبانة الغادرة, وسكنت أرض فلسطين الخالدة خلود عروبتها وفلسطينيتها وانتمائها العربي.
أبا علي , قلتها بعد أن عبرت نهر الأحزان والشوك والشوق… نطق بها قلبك قبل فكرك ولسانك: "جئنا لنقاوم, لا لنساوم". شهدت الأراضي المحتلة مقدار عطائك, وأحس أبناء شعبنا الفلسطيني بأهمية وجودك بينهم, ورفاقنا بالتصاقك بهم وبجهودك من أجل إثراء قضيتنا.أبو علي..اعتقدوا أنهم دمرّوك بصواريخهم. خسئوا, فأنت الحي, وهم الميتون حتى وإن تنفسوا واقترفوا مذابحهم اليومية, فهم الجِيَف النتنة أولاً وأخيراً. اجتمعت فيك صلابة الألماس ورقة النسيم في معادلة رائعة. صلابة, حين يستلزم الموقف ذلك… ورقّة, في مواضعها. لا تتطلع إلا إلى السماء, عمادك العزة والوفاء والكرامة ومصالح شعبنا, وأولا وأخيرا: المقاومة والكفاح المسلح. في حياتك كنت بسيطًا مثل الماء… في عطائك مثل بيدر, تعطي بلا حدود لا تكّل ولا تملّ… حانيًا مثل أمٍّ رؤوم, يتسع قلبك لكل الناس. تحزن لدمعة طفل, وتدمع عيناك لكل موقف عاطفي وإنساني. يتعلم الآخرون من خصالك كيف يكون الإنسان إنسانًا,والمناضل مناضلاً, والقائد قائداً. باختصار كنت يعقوبياً ثوريا نقيّا وطاهرا. لم تتلوث سمعتك يوماً... قضية يشهد بها منتقدوك سياسياً قبل رفاقك وأصدقائك وأهلك.
أغسطس غني بشهادة العديد من الفلسطينيين وموت كفاءاتهم. الشهادة واجب.. والموت حق… وما بين الاثنين… يسير الفلسطيني المقاوم بالسلاح, والكلمة. وبالرواية, والمقالة.. والقصيدة, وبالقلم والمسرحية. والإخلاص والعطاء لفلسطين من كل المواقع, وبالانتماء إلى الوطن الفلسطيني الكنعاني اليبوسي العربي الأصيل والحضن الشعبي العربي .. ورغم جراح العربي ومآسيه تظل فلسطين دوما جرحه النازف حتى تحريرها كاملة غير منقوصة, فلا بقاء لهذا المشروع الفاشي…ستة عشر عامًا مضت على غياب جسدك القسري, لكن فكرك ومبادئك وكلماتك استوطنت قلوبنا.
في زمن الردة, يبحث الشعب عن نفرٍ من القادة, لم يساوموا يومًا في حق. لم ينطقوا مرّة بغير الصدق. ولاؤهم الوحيد لفلسطين وتحريرها. وقبلتهم مصالح شعبهم. فلسطين في أذهانهم لا تحتمل التجزئة ..إنها كلها فلسطيننا العربية الخالدة. كنت أيها الصديق فارس أولئك القادة. امتشقت فلسطين في فؤادك النابض بتاريخها الكنعاني العربي, وبحاضرها المؤلم حتى النخاع, انتظارًا لفرسان قادمين, يمحون دنس ورجس أولئك المغتصبين لثراها الطاهر, آمنت بمستقبلها المشرق, وأريج زهرها الجوري, وصفاء مياه بحرها .أسوارها الحصينة ,ما انكسرت يومًا أمام عواصف التاريخ، ظلت عصية على الغزاة. مثّلت لغة التخاطب الوحيدة بين أسوار المدينة والغزاة. كنت حبر التفاهم بين أشياء المدينة والإله. انطبعتَ أيها الصديق, صفحة نقية على وجه التاريخ الأزلي المقاوِم, وظلت حقيقة أبدية هي… الفلسطينية الخالدة. تجسّدت أملًا قادمًا عنوانه: الانتصار, ليعود الثوب الفلسطيني المطرّز إلى جذوره الأصيلة في مناطقه ومدنه وقراه… وعَبَقِهِ برائحة الأرض, التي تعيش في تلافيف دماغ الفلسطيني في منفاه. يحملها أهزوجة النصر القادم, والعودة المظفرة لأرضنا المشتاقة دومًا لأبنائها.
يحاولون تزوير التاريخ, واختراع أساطير وأضاليل جديدة لوجه وطننا, مثلما حاول غزاة آخرون مرارًا قبلهم. لا يدرك أولئك القتلة: أن أرض فلسطين تضيء وجه القمر, تظلل السماء بعبق زيتها العتيق, وحبات زيتونها, وأريج أزهار برتقالها وليمونها, تنزرع خلودًا قبل التاريخ, وقد أخذ صفحات وجهه من أزليتها وأبديتها الخالدة .. عنوان وجودها.
ها أنت أيها الوطن تنادي أبا علي! يوم ترجَّل عن فرسه, أظلمت السماء, حزنًا على الجسد المخبء في شظية .. وفي بطن حلم, عنوانه: العودة إلى الأرض حيًّا أو شهيدًا, حيث يتنادى الشهداء مرحبين بالقادم الجديد, عنوانًا للتضحية, وتجسيدًا للوفاء, وتعبيرًا حيًّا عن التزام الفاسطيني بثرى ترابه الوطني, في علاقة يحار الغازون في طبيعتها, بل في وجودها من الأصل. تتمثل حُلمًا في عقل طفل, وتراثًا حاضرًا يؤسس لمستقبل أكثر حضورًا في رأس شيخ… حمل مفتاح بيته, عبر فيه كل المنافى, ظل ملتصقًا بكوشان الأرض , ليكون معلمًا أساسيًّا من معالم الفلسطيني حيثما يتواجد.
أبا علي كم نفتقدك... وأنتم شهداءؤنا.... أنتم منارات شعبنا, أيها البررة البواسل كم نفتقدكم.