الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد: اليوم أيها القراء الكرام نكمل ما بدأناه مع سورة القيامة وهي سورة مكية ، وهي (تسع وثلاثون آية) تتناول بعث الناس وحسابهم، وعن القيامة وأهوالها، ثم طمأنت الرسول (صلى الله عليه وسلم) على جمع القرآن فى صدره، ووجَّهت الردع إلى مَن يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، ووازنت بين وجوه المؤمنين الناضرة، ووجوه الكافرين الباسرة، وتحدثت كذلك عن حال المحتضر، وما كان من تقصيره فى الواجبات حتى كأنه يظن أن لا حساب عليه، وختمت بالأدلة التى توجب الإيمان بالبعث، نسأل الله سبحانه أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وذهاب همومنا وجلاء حزننا.

قال تعالى:{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى* أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} (31- 35)

قوله تعالى : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل : يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة ، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة "ولا صلى" ودعا لربه، وصلى على رسوله. وقال قتادة : فلا صدق بكتاب الله ، ولا صلى لله. وقيل : ولا صدق بمال له ، ذخرا له عند الله ، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه.
وقال الأخفش: "فلا صدق" أي لم يصدق ؛ كقوله: {فَلا اقْتَحَمَ} أي لم يقتحم ، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب ، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل ومنه قول زهير : فلا هو أبداها ولم يتقدم.
قوله تعالى:{وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي:كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي: يتبختر ، افتخارا بذلك وقيل: "يتمطى" من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق ؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف ، والتمطي يدل على قلة الاكتراث ، وهو التمدد ، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض لأنه يتمطى أي يتمدد ؛ وفي الخبر:(إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم". والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي.
قوله تعالى:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال:"فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى" أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن ، كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم.
لا يقال: فإن قوله: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} خصلة خامسة فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فهزه أو مرتين ثم قال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) بيده فقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة.
وقيل: معناه : الويل لك، وقيل: معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي "أولى" في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول: قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ؛ وأصله من الولي ، وهو القرب، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} أي:(يقربون منكم) .. والله أعلم.
.. يتبع بمشيئة الله.

إعداد ـ أم يوسف:
(المصدر: القرطبي)