ناصر بن محمد الزيدي
الحمدلله الـذي نـزل عـلى عـبـده الـفـرقان لـيكـون للـعالمين نـذيـرا، والصلاة والسلام عـلى المبعـوث رحـمة للـعـالمين وسـراجـا مـنـيرا وعـلى آله وأصاحـبه الطـيبين الطـاهـرين، وعـلى التابعـين لهـم بإحسان إلى يـوم الـدين وبعـد:
فـقـول الله تعالى: {ليس الـبر أن تـولـوا وجـوهـكـم قـبـل المشـرق والمغـرب، ولكـن الـبر مـن آمـن بالله واليـوم الآخـر والمـلائكـة والكـتاب والنـبـيين، وآتى المـال عـلى حـبه ذوي القـربى واليـتامى والمساكـين وابن السـبيـل والسائـلـين وفي الـراب وأقـام الصـلاة وآتى الـزكاة والمـوفـون بعـهـدهـم إذا عـاهـدوا والصـابـرين في البـأسـاء والضـراء وحـين البأس ، أولـئـك الـذين صـدقـوا وأولـئـك هـم المـتـقـون} (البـقـرة ـ 177).
قال القاسـمي في تفـسيره محـاسن التأويـل: البـر اسم جـامع للطـاعـات وأعـمال الخـير المقـربة إلى الله تعالى، ومـن هـذا بـر الـوالـدين، قال تعالى: {إن الأبـرار لـفي نـعـيم وإن الفجـار لـفي جـحـيم } (الانفطار 13 ـ 14)، فجـعـل البـر ضـد الـفـجـور، قال تعالى: {وتعـاونـوا عـلى الـبر والتـقـوى ولا تعـاونـوا عـلى الإثـم والعـدوان} (المـائـدة ـ 2)، فجـعـل الـبر ضـد الإثـم، فــدل عـلى أنه اسـم عـام لجـميع ما يـؤجـر عـليه الإنسان، أي: ليـس الصـلاح والـطاعـة والفـعـل المرضي في تـزكـية النفـس، الـذي يجـب أن تـذهـلـوا بـشأنـه عـن سـائـر صـنـوف الـبر هـو أمـر القـبلـة (أي تحـويل القـبلة إلى الـعـبة)، ولكـن يجـب الاهـتمـام به هـو هـذه الخـصال التي عـدهـا الله عـزوجـل.
ولا يبـعـد أن يـكـون بعـض المـؤمـنـين عـنـد نـسخ القـبلة وتحـويـلها حـصل منهـم الاغـتباط بهـذه القـبلـة، وحـصـل منهـم التشـدد في شـأنها، حـتى ظــنـوا أنه الغـرض الأكـبر في الـدين، فـبعـثهـم تعالى بهـذا الخـطـاب عـلى اسـتيفـاء جـميـع العـبادات والطاعـات، أشـار لهـذا الـرازي.
وقال الإمـام الـزمخـشـري في الكشاف:(البـر) اسم للخـير ولـكل فـعــل مرضي، {أن تـولـوا وجـوهـكـم قـبـل المشـرق والمـغـرب } الخـطاب لأهـل الكـتاب لأن اليهـود تصلي قـبـل المغـرب إلى بيت المقـدس ، والنصـارى قـبـل المـشـرق ، وذلك أنهـم أكـثروا الخـوض في أمـر القـبلـة حـين جـاء الأمـر مـن الله عـز وجـل إلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم يأمـره أن يتجـه إلى الـكعـبة، وزعـم كل واحـد مـن الفـريقـين أن البـر الـتـوجـه إلى قـبـلته، فـرد الله عـليهـم ، وقـيـل : لـيس الـبر فـيما أنـتم عـليه فإنه منـسـوخ خـارج مـن الـبر ، ولـكـن الـبر ما نبيـنه، وقـيـل: كـثـر خـوض المسـلمين وأهـل الكـتاب في أمـر القـبلة، فـقـيـل: ليـس الـبر العـظـيم الـذي يجـب أن تـذهـلـوا بشـأنه عـن سـائـر صـنـوف الـبر أمـر القـبلة، ولـكـن الـبر الـذي يجـب الاهـتمام به وصـرف الهـمـة هـو بـر مـن آمـن وقــام بهـذه الأعـمال.
وقـريء:{لـيس الـبر} بالنـصب عـلى أنه خـبر مـقـدم ، وقـرأ عـبـد الله:{بأن تـولـوا} عـلى إدخـال الباء عـلى الخـبر للـتـأكـيـد كـقـولك: ليـس المـنـطـلـق بـزيــد، {ولـكـن الـبـر مـن آمـن بالله} عـلى تأويـل حـذف المـضاف، أي بـر مـن آمـن، أو بـتأول الـبر بمـعـنى ذي الـبر أو كـما قـالت الخـنسـاء:
لا تسأم الـدهـر مـنه كلـما ذكـرت فإنما هي إ قـبـا وإدبــار

وقال الـراغـب: الخـطاب في هـذه الآية للـكـفار والمنافـقـين الـذين أنـكـروا تغـيير القـبلة، وقـيـل: بـل لهـم وللمـؤمنـين حـيث قـد يـرون أنهـم نالـوا البـر كله بالتـوجـه إليها.
وقال الإمـام الطاهـر بن عـشـور في تفسـيره التحـريـر والتـنويـر: قـدمـنا عـنـد قـوله تعالى: {يا أيها الـذين آمنـوا استعـينـوا بالصبر والصلاة إن الله مـع الصابـرين} (البقـرة ـ 153)، أن قـوله:{لـيس البـر أن تـولـوا وجـوهـكـم قـبـل المشـرق والمغـرب} (البـقـرة ـ 177) متصـل بقـوله تعالى:{سـيقـول السـفهاء مـن الناس ما ولاهـم عـن قـبلـتهـم التي كانـوا عـليها} (البـقـرة ـ 142)، وأنه خـتام للمحاجة في شـأن تحـويـل القـبلة ، وأن ما بـين هـذا وذلك كله اعــراض أطـنب فـيه وأطـيـل لأخـذ مـعـانيـه بعـضها بحجـز بعـض.
فهـذا إقـبال عـلى خـطاب المـؤمنـين ، بمناسبة ذكـر أحـوال أهـل الكـتاب وحـسـدهـم المـؤمنـين ، عـلى اتباع الإسـلام مـراد مـنه تلـقـين المسلمين الحجـة عـلى أهـل الكـتاب في تهـويـلهـم عـلى المسلمـين إبـطال القـبلة التي كانـوا عـليها وكانـوا يـصـلـون إليها فـفي ذلك تعـريض بأهـل الكـتاب.
فـأهـل الكـتاب رأوا أن المسلمين كانـوا عـلى شيء مـن الـبر باسـتقـبالهـم قـبلتهـم فـلما تحـولـوا عـنها لمـزوهـم ، وبانهـم أضـاعـوا مـن أمـور الـبر ، يـقـول عـد عـن هـذا وأعـرضـوا عـن تهـويـل الـواهـن ، وهـبـوا أن قـبلة الصـلاة تغـيرت أو كانت الـصلاة بـلا قـبلة أصـلا فهـل ذلك أمـر له أثـر في تـزكـية النفـوس واتصافها بالـبر، فـذكـر المـشرق والمـغـرب انتصـارعـلى أشـهـر الجـهات أو هـو للإشـارة إلى قـبلة اليهـود وقـبلـة النصـارى لإبـطال تـهـويـل الفـريقـين عـلى المسلمين حـين اسـتقـبلـوا الكـعـبة ومنهـم من جـعـله لـكل من يسـمـع الخطاب.
والبر سـعـة الإحسان وشـدة المرضاة والخـير الكامل الشامل ، ولــذلك تـوصـف به الأفــعـال القـوية الإحـسان ، فـيقال : بـر الـوالـدين وبـر الحـج، وقال تعـالى:{لـن تـنال البـر حـتى تـنفـقـوا ما تحـبـون} (البـقـرة ـ 92)، والمـراد به هـنا بـر العـبـد ربه يحـسـن المعـاملة في تلقي شـرائعـه وأوامـره.
ونفـي البـر عـن اسـتقـبال الجهـات ، مـع أن منها ما هـو مشـروع كاسـتقـبال الكـعـبة: أما لأنه مـن الـوسـائـل لا مـن المـفـاسـد فـلا ينبغـي أن يـكـون الاشـتغـال به قـصارى هـمة المـؤمنين ولـذلك اسـقـطـه الله عـن الناس في حـال العـجـز والنسيان وصلـوات النـوافـل عـلى الـدابة في السـفـر، ولـذلك قال الله تعالى:{.. ولـكـن الـبر مـن آمـن .. الى آخر الآية} فإن ذلك كله مـن أهـم مـقـاصـد الشـريعـة، وفـيه جـماع صـلاح النفـس والجـماعـة ونـظـير هـذا قـوله تعالى:{أجـعـلـتـم سـقايـة الحـاج وعـمارة المسجـد الحـرام كـمـن آمـن بالله واليـوم الآخـر وجاهـد في سـبيـل الله لا يسـتـوون عـنـد الله، والله لا يهـدي القـوم الـظالمين} (التـوبة ـ 19)، فـيـكـون النفي عـلى مـعـنى نـفي الكـمال، إما لأن المـنـفي عـنه الـبـر هـو اسـتقـبال قـبلتي اليهـود والنصـارى فـقـد تـقــدم لنا أن ذلك الاسـتقـبال غـير مشـروع في أصـل دينهـم ولكـنه شيء استحـسنه أنبيـاؤهـم ورهـبا نهـم ولـذلك نـفي الـبـر عـن تـولـية المشـرق والمغـرب تنبيها عـلى ذلك.
وقـرأ الجـمهـور: {لـيـس البـر} بـرفـع الـبـر عـلى أنه اسـم لـيس والخـبر هـو أن تـولـوا وقـرأ حـمـزة وحـفـص عـن عـاصـم بنـصـب الـبر عـلى أن قـوله {أن تـولـوا} اسـم لـيس مـؤخـر، ويـكـثر في كـلام العـرب تقـديـم الخـبر عـلى الاسـم في باب كان وأخـواتها إذا كان أحـد معـمـولي هـذا الباب مـر كـبا مـن أن المـصـدرية وفـعـلها كان الـمـتكـلم بالخـيار في المعـمـول الآخـر بـين أن يـرفـعـه وأن يـنصبه ، وشـأن اسـم ليـس أن يكـون هـو الجـديـر بكـونه مبـتـدأ به ، فـوجـه قـراءة رفـع الـبر أن الـبر أمـر مشـهـور معـروف لأهـل الأديـان مـرغـوب للجـمـيع فإذا جـعـل مـبــدأ في حـالة النفي أصـغـت الأسـماع إلى الخـبر، وأما تـوجـيه قـراءة النـصـب فـلأن أمـر اسـتقـبال القـبلة هـو الشـغـل الـشاغـل لهـم فـإذا ذكـر خـبره قـبلـه تـرقـب السـامـع المـبـتـدأ، فإذا سـمـعه تقـرر في عـلمـه.
وقال القاسمي: قال تعالى: {ولـكـن الـبر مـن آمـن بالله}، أي إيـمان مـن آمـن بالله ، الـذي دعـت إليه آيـة الـوحـدانـية ، فأثـبت له صـفات الـكـمـال ، ونـزهه عـن سـمات النقـصان: و{الـيـوم الآخـر} الـذي كـذب به المشـركـون، فاخـتـل نـظامهـم ببغـي بعـضهـم عـلى بعـض : و{المـلائكـة} أي:آمـن بهـم وبأنهـم عـبـاد مـكـرمـون متـوسـطـون بينـه تعـالى وبـين رسـله، بإلـقاء الـوحي وإنـزال الكـتب: و{الكـتاب }أي: بجـنس الكـتاب، فـيشـمـل الكـتب المـنـزلة مـن السـماء عـلى الأنـبيـاء، التي مـن أفـردهـا وأشـرفهـا القـرآن الكـريم المهـيمـن عـلى مـا قـبله مـن الكـتب ، الـذي انتهى إليه كل خـير واشـتمـل عـلى كل سـعـادة في الـدنيا والآخـرة {والنـبيـين} جـميـعـا مـن غـير تفـرقـة بـين أحـد منهـم ، كمـا فـعـل أهـل الكتابـين.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله الاسبوع القادم.