[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]
بالطبع في كل من مناسك الحج معنى ودلالات كثيرة، لكن برأيي إذا عاد الحاج من أداء الفريضة وقد استوعب دلالة التجرد والمساواة، وعمل على أساسهما في كافة جوانب حياته يكون الحج انعكس من مليونين يزورون مكة كل عام إلى مئات الملايين من البشر ـ مسلمين وغير مسلمين في كافة أرجاء الأرض.

يعيش المسلمون هذه الأيام أجواء الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة وما تحمله شعائر الحج من معانٍ ودلالات، أهمها بالطبع كونها الركن الخامس من أركان الإسلام. حتى عيد الأضحى، أعاده الله عليكم بالخير، يرتبط بهذا الركن من أركان الإسلام فهو عيد الأضحى ـ ليس فقط لذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء وإنما للتذكير بقصة الإخلاص والفداء لسيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليه السلام. تلك المعاني التي كادت تندثر في أيامنا هذه، إذ صدق خليل الله إبراهيم رؤيا ربه أنه يذبح ابنه العزيز على قلبه فما كان من ابنه إخلاصا ووفاء لأبيه أن أطاع حتى كاد أبوه أن يذبحه ليفديه الله سبحانه وتعالى بأضحية كما في الآية الكريمة من كتاب الله. هذا اليقين والإخلاص وطاعة الابن لأبيه من الخصال التي لا تكاد تعثر عليها بين أبناء أجيال هذه الأيام إلا فيما ندر. وإذا لم يذكرنا العيد بذلك، واكتفينا فيه بالأكل والاحتفال، فقد فاتنا أهم ما في المناسبة من معانٍ ودلالات.
أما الحج، الذي فرض على من يستطيع إليه سبيلا، فكأنه يكمل بقية العبادات ويتوجها لما في مناسكه من معانٍ ودلالات إذا خلص قلب من يؤديها للعبادة تنعكس على سلوكه وعلى محيطه بل وعلى البشرية جمعاء. وإن كنت لست متبحرا في علوم الدين، لكني أفهم الإسلام كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بما حبانا به من عقل وبيسر قرآنه المجيد وسنة نبيه الكريم. وتصوري أن من أهم دلالات الحج خصلتين من خصال الإنسانية السمحة، لا يختلف على نبلهما اثنان من أي دين أو حتى بلا دين، هما التجرد والمساواة. فالقصد من إحرام الحجيج هو تجرد الحاج من كل أشكال زينة الملبس التي تميز بين الناس في حياتهم العادية على أساس اجتماعي/اقتصادي. فالكل يلتحف ثوبا مجردا بلا مخيط فلا يعني كثيرا إن كان الثوب فيرساتشي أو أرماني أو بيير كاردان. ولعل من الإمعان في التجرد أيضا أن لباس الإحرام لا يقصد منه سوى ستر العورات، مذكرا البشر بأن عوراتهم تحتاج للستر وأن سترها لا يحتاج سوى قطعة قماش لا يهم نوعها ولا ماركتها.
ودلالة هذا التجرد أنه يجعل الحاج غير متكالب على الدنيا، دون زهد تام فيها طبعا، وإنما تذكير بأن ما يكفيك في الدنيا قليل. ومن شأن ذلك أن يشذب خصالا كالطمع والجشع، وهي خصال بشرية تحتاج للضبط ولا يمكن نفيها تماما، فكلنا فينا من هذه الخصال، ومنا من يكبتها بوعي، ومنا من في طبعه أنها مكبوتة، ومنا من تسيطر عليه وتتملكه. فكان التجرد في الحج، عبر ملابس الإحرام، للدلالة على أن تلك الخصال تحتاج للضبط والتهذيب. وليس التجرد بمفصول عن الدلالة الثانية الأهم وهي المساواة. وإذا كان هناك من يشبه الوقوف بجبل عرفة ـ أهم مناسك الحج ـ بيوم الحشر فإن ذلك تأكيد لدلالة المساواة حين يعرض البشر على ربهم يوم القيامة وكلهم سواسية لا يفاضل بينهم إلا عملهم في دنياهم. فإن كان خيرا وقاهم الله شر ذلك اليوم، وإن كان شرا حرموا أنفسهم من خير ذلك اليوم. وحين يقف الحاج من غياهب إفريقيا أو أقاصي آسيا إلى جانب الحاج من أوروبا وأميركا الشمالية أو القوقاز تتساوى الرؤوس فلا مجال لعنصرية أو تفاخر بالنسب واللقب أو بالجنس أو العرق أو اللون. ومع ما نشهده في عالم اليوم من تصاعد لمشاعر العنصرية والتمييز، حتى في داخل البلد الواحد، يمكن فهم أهمية هذه الدلالة المستقاة من شعيرة الحج.
بالطبع في كل من مناسك الحج معنى ودلالات كثيرة، لكن برأيي إذا عاد الحاج من أداء الفريضة وقد استوعب دلالة التجرد والمساواة، وعمل على أساسهما في كافة جوانب حياته يكون الحج انعكس من مليونين يزورون مكة كل عام إلى مئات الملايين من البشر ـ مسلمين وغير مسلمين في كافة أرجاء الأرض. صحيح أنه في الدين أيضا "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات" وهناك من يفسر الآيات والأحاديث على أن التباين في الرزق من سنة الحياة ـ وهذا صحيح طبعا ـ لكنه ليس مبررا للجور والظلم المستند إلى خصال الجشع والطمع والعنصرية والتمييز. والحج عبادة كبقية العبادات في الإسلام، وبالتالي فهو علاقة بين العبد وربه لا يطلع على حسنها من سوءتها بشر، إنما للبشر ما تعكسه العبادات على سلوك المتعبدين. فإن عاد الحاج وقد هذب خصال الجشع والطمع والعنصرية والتمييز يكون لمن حوله ومن حولهم أنه خلص حجه، وإن لم يكن فبينه وبين ربه حسابه على أداء فريضته، أما للناس فهو لم ينل من حجه شيئا.
خلاصة القول إن "الدين المعاملة"، فلا شأن لي بدينك ما لم ينعكس على معاملتك لي ولغيري من البشر وحتى معاملتك لأرض الله التي استخلفنا فيها ـ من حفاظ عليها وعمارتها بالحسنى والحرص على استدامة صلاحيتها.
أثاب الله حجاج بيته الحرام بأن يدركوا دلالات تلك الشعيرة العظيمة بما يعود بالنفع عليهم، وعلى من حولهم وعلى البشرية جمعاء، وكل عام وأنتم بخير.