[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” يرى النظام الجديد في مصر أن لغة التهديد والوعيد لم تعد تجدي مع الدول الإفريقية وأنه لابد من إيجاد حلول لمواجهة مشكلة نقص المياه بشكل عام, بدلا من حصرها في حصة مصر من مياه النيل التي لم تعد تكفي احتياجات مصر, وأنه لابد من وضع استراتيجية جديدة للموارد المائية تعتمد على موارد متجددة وحلول تكنولوجية لتلبية الاحتياجات المتزايدة من المياه .”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظلت مصر على مدار آلاف السنين تعتمد على مياه النيل القادمة من منابعه في مرتفعات الحبشة والبحيرات الاستوائية, في سد احتياجات المصريين في الصعيد والدلتا من مياه الشرب وري الأراضي الزراعية والأغراض الصناعية والملاحة النهرية من أسوان في الجنوب حتى دمياط ورشيد في الشمال؛ حيث كان النهر يصب مياهه الزائدة في البحر المتوسط , ولم تنازع دول المنبع مصر في حصتها التي تتجاوز 55 مليار متر مكعب من المياه سنويا, بموجب الاتفاقيات الموقعة في عام 1902 م بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية نيابة عن إثيوبيا واتفاقية 1929م بين مصر ودول حوض النيل, والتي أعطت مصر حق الاعتراض على إقامة أي مشروعات تقيمها دول المنبع على نهر النيل قد تضر بحصتها من المياه, واتفاقية اقتسام مياه بحيرة ناصر بين مصر والسودان عام 1959م وهي الاتفاقيات التي تعتمد عليها مصر الآن في الدفاع عن حصتها من مياه "النيل".
في العقود الماضية, لم تكن دول المنبع (إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وكينيا ورواندا) في حاجة لمياه النهر لهطول الأمطار الموسمية معظم شهور العام وتعرضها للأضرار الناتجة عن الفيضانات العالية لنهر النيل, ومع حصول هذه الدول على استقلالها ورغبتها في تحقيق النمو الاقتصادي وزيادة السكان ؛ زادت احتياجاتها للطاقة الكهربائية, ورغبت في محاكاة مصر في بناء السد العالي وتوليد الكهرباء عن طريق السدود المائية, فبدأت تثور على الاتفاقيات القديمة لمياه النيل بحجة أنها اتفاقيات إذعان وقعها المحتل نيابة عنهم ودون إرادة أصحاب الشأن, فكانت اتفاقية عنتيبي التي تعيد تقسيم مياه النيل والتي رفضت مصر التوقيع عليها حتى الآن.
حتى ظهرت مشكلة سد النهضة, حين استغلت إثيوبيا (التي يرد منها 80% من مياه النيل) انشغال مصر باضطرابات "ثورة 25 يناير" 2011م , وشرعت في بناء السد الذي طالما رفضت مصر السماح لها ببنائه, ولم تجرؤ شركة عالمية التقدم لبنائه خوفا من رد الفعل المصري الذي وصل لحد التلويح بالعمل العسكري, ووجدتها إثيوبيا فرصة لدعوة الشركات وجهات التمويل الدولية للمشاركة في بناء السد, الذي يحتاج إلى تخزين 70مليار متر مكعب من المياه لاستخدامها في توليد كميات هائلة من الطاقة الكهربائية تكفي استخدامات إثيوبيا وتبيع الفائض لمن يريد من دول الجوار, وهو الأمر الذي سيؤثر قطعا على حصة مصر من المياه التي لا تكفي احتياجاتها بعد أن قارب عدد سكانها من الـ 100مليون.
يرى النظام الجديد في مصر أن لغة التهديد والوعيد لم تعد تجدي مع الدول الإفريقية وأنه لابد من إيجاد حلول لمواجهة مشكلة نقص المياه بشكل عام, بدلا من حصرها في حصة مصر من مياه النيل التي لم تعد تكفي احتياجات مصر, وأنه لابد من وضع استراتيجية جديدة للموارد المائية تعتمد على موارد متجددة وحلول تكنولوجية لتلبية الاحتياجات المتزايدة من المياه .
تعتمد هذه الاستراتيجية على المشاركة بدلا من المواجهة مع دول حوض النيل والتعاون في إقامة مشروعات لتحسين طرق الزراعة وتطوير الري باستخدام التنقيط بدلا من الغمر واستقطاب الفواقد من مياه حوض النيل عن طريق إنشاء قناة "جونجلي" في جنوب السودان, والتوسع في استخدام المياه الجوفية المتجددة في الوادي والدلتا وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي والزراعي بعد معالجتها وإنشاء محطات تحلية لمياه البحر والمياه الجوفية والحد من زراعة المحاصيل الشرهة للمياه مثل الأرز وقصب السكر وترشيد الاستخدام المنزلي لمياه الشرب والاعتماد على وحدات التبريد الصناعي التي تعتمد على الهواء بدلا من المياه في الأغراض الصناعية , ومكافحة تلوث المياه .
تبقى مشكلة الحصول على الطاقة اللازمة لتشغيل محطات التحلية, وإذا كانت الدول الخليجية استفادت من توفر النفط في تشغيل محطات الكهرباء اللازمة لتحلية مياه البحر وبتكلفة اقتصادية معقولة بالنسبة للدول الخليجية, ولكنها تكلفة لا تستطيعها معظم الدول العربية غير النفطية, والحل في الاتجاه للتكنولوجيا الحديثة والاطلاع على تجارب الدول التي نجحت في تحلية مياه البحر باستخدام وسائل تكنولوجية رخيصة الثمن, وبالنسبة لمصر حرصت الحكومة أن تكون مناطق التمدد العمراني الجديدة تطل على البحر سواء الأبيض في مناطق العلمين والضبعة والساحل الشمالي أو الأحمر في سيناء وجبل الجلالة وخليج السويس, بعيدا عن نهر النيل, ولا يبقى من حل إلا استخدام أنواع جديدة من الطاقة غير المكلفة, ومن هنا فإن الطاقة النووية تصبح لاغنى عنها في تحلية المياه التي تكفي استهلاكا يزداد بسرعة مخيفة وتوسعا عمرانيا وسياحيا وصناعيا لازمين لتأمين سبل الحياة لـ 100مليون مصري.
المستقبل يكمن في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح خصوصا في المناطق النائية البعيدة عن شبكة الكهرباء , رغم تكلفتها العالية وحاجتها للخلط مع مصادر الطاقة الأخرى, ولكنها طاقة نظيفة تمثل الأمل خاصة مع التطورات الجارية لزيادة قدرة التخزين للخلايا الشمسية والبحث عن خامات متوافرة ورخيصة وتكنولوجيا جديدة تخفض تكلفة تصنيع الخلايا الشمسية وزيادة كفاءتها .
ليس مطلوبا أن تتنازل مصر عن حقوقها التاريخية في مياه النيل ولكن المهم أيضاـ سواء للقاهرة والخرطوم وأديس أبابا ـ بناء جسور الثقة والبعد عن سياسة الالتفاف والمناورة وطرح الحقائق والمعلومات عن سد النهضة بصدق وشفافية ومحاولة الاتفاق على استراتيجية تنموية تتعامل مع ملف مياه النيل ومصادر الطاقة والتنمية المستدامة بعقول متفتحة ولهجة أكثر هدوءا , فلا يزال هناك فرص ومياه تكفي الجميع.

محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري
[email protected]