قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
ــــــــــــــــــــ
جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان من خلال عنوانها ( فقه رؤية العالم والعيش فيه ....المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة) .. والتي عقدت خلال الفترة من 25 الى 28 جمادى الاولى 1434هـ الموافق 6 الى 9 ابريل 2013م في نسختها الثانية عشرة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتوجيهات سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومن ضمن ما قدم خلال الندوة من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(التعامل مع غير المسلمين .. رؤية اسلامية، وواقع تاريخي) لسعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الافتاء .. ونستخلص معك عزيزي القارئ شيئا من هذا البحث للفائدة ..

العهدة العمرية:
استكمالا للحلقة السابقة من هذا البحث .. يقول الباحث الشيخ السيابي: بأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يواصل المسيرة المباركة في إقرار النصارى على دينهم وإعطائهم حقوقهم المشروعة إسلاميا من تعهدات والتزامان بضمان ذلك لهم،مقابل التزامهم بما عليهم من حقوق وواجبات في النظام الإسلامي العام،حيث أعطى أهل القدس عهدا بذلك وكتب لهم ما عرف فيما بعد بالعهدة العمرية ،جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم،هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان،أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولا تهدم،ولا ينقص منها ولا من حيزّها،ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم،ولا يكرهون على دينهم،ولا يضار أحد منهم،ولا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود،وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن،وعليهم أن يخرجوا منها الروم وللصوت، فمن خرج منهم فانه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم،ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه ما على أهل إيلياء من الجزية،ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فانهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم،وما كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان،فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية،ومن شاء سار مع الروم،ومن شاء رجع إلى أهله،فانه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم،وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية).

التعامل العماني ـ المسيحي إسلاميا:
وحول هذا الجانب يوضح الشيخ السيابي: بأننا لا نستبعد أن يكون هناك وجود مسيحي في عُمان، ولا سيما في عهد دولة اليعاربة التي توسعت خلالها علاقة عمان بالخارج، ولكن المصادر لم تتحدث عن ذلك الوجود، سوى ما ذكره الرحالة الالماني، انجبلبرت كيمبفر، وهو أول رحالة أروبي يزور عُمان في العصر الحديث،فقد ذكر وجود تاجر أرميني في مسقط، واسمه فانيسيان، وإنه كان مسموحا له ممارسة شؤونه التعبدية حسب ديانته، وقال: إن له رفقاء أرمينيين آخرين، والظاهر أنهم كانوا على الديانة المسيحية.
مبينا بأن التعامل العماني ـ المسيحي كان إسلاميا وذلك من خلال جزيرة سقطرى، فقد اتفق الامام الجلندى بن مسعود (132 ـ 134هــ) مع سكانها النصارى على كيفية أخذ الجزية منهم، مما يدل على تبعية الجزيرة للدولة العمانية منذ عهد قديم ولعل تلك التبعية تعود إلى ما قبل الإسلام ، فإن الامام الجلندى وجدها في التاريخ الآنف الذكر،ضمن المساحة الجغرافية للدولة العمانية.
وقال: وعلى عهد الامام الصلت بن مالك الخروصي (237 ـ 272هــ) تجلت العدالة الإسلامية تجاه النصارى أهل سقطرى بكل معانيها في العهد (الوثيقة) الذي زود به الحملة العسكرية التي وجهها لاسترجاع سقطرى، بعد نكث النصارى العهد مع العمانيين على عهد ذلكم الامام،حيث هجموا على الحامية العمانية فقتلوا الوالي وعددا من الجنود العمانيين،هنالك وجه الإمام الصلت بن مالك إليهم حملة عسكرية على مائة سفينة أو أكثر، وزودهم بعهد (وثيقة) بين لهم أحكام الاسلام مع أهل الكتاب في الحرب والسلم واوضح لهم الجائز وغير الجائز من الاحكام في حربهم معهم، ويعتبر هذا العهد من أفضل ما كتب عن الحرب والسلم في الإسلام، ومن عهد الإمام الصلت بن مالك جاء فيه: (فافعلوا من ذلك ما اجتمع عليه رأيكم من بعد مشورة أهل الخبرة بذلك، ممن ترجون بركة رأيهم وفضل معرفتهم، فإذا أرسلتم إلى أهل السلم والعهد، فأعلموهم مع رسلكم أنهم آمنون على أنفسهم ودمائهم وحريمهم وذراريهم وأنكم وافون لهم بالعهد والذمة والجزية على الصلح الذي يقوم بينهم وبين المسلمين فيما مضى، ولا ينقض ذلك ولا يبدله، ومروهم باحضار جزيتهم إليكم واختاروا إليهم رجالا من خيارهم من يثبت إلى الصلاح منهم، فوجهوهم إلى هؤلاء الناقضين لعهدهم،الناكثين على المسلمين ببغيهم، واجعلوا ممن توجهون رجلين صالحين ممن يوثق بهم من أهل الصلاة (المسلمين) فإن لم يمكنكم بعث اثنين صالحين من أهل الصلاة (المسلمين) فواحد، فتأمروهم أن يصلوا إلى الذين نقضوا العهد،فتدعوهم عن لساني وألسنتكم إلى الدخول في الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع حقوق الله والانتهاء عن معصيته، فإن قبلوا ذلك فهي أفضل المنزلتين لهم،وذلك يمحو ما كان من حدثهم، لأن الله يقول في المحكم من كتابه:(فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم) {التوبة/5}، وإن كرهوا أن يقبلوا الإسلام ويدخلوا فيه، فلتدعوهم إلى الرجعة من نكثهم والتوبة من حدثهم إلى الدخول في العهد الأول الذي كان بينهم وبين المسلمين على أن لهم وعليهم الحق بحكم القرآن من أولي العلم بالله وبدينه من أهل عُمان ممن نزل إليهم أمر المسلمين، فإن أجابوا وتابوا فلتقبلوا ذلك منهم، ولتأمروهم بترك ما في أيديهم وأيدي أصحابهم من أهل الحرب من نساء مسلمات ثم لا يتزوج رسلكم من عندهم حتى يقدم معهم رؤساء أهل الحرب ويسلموا إليهم النساء المسلمات اللاتي سبوهن،واجعلوا لرسلكم أجلا في رجعتهم لمن أجابهم، وبالسبايا إلى ذلك الأجل أن لا تظلموهم ولا تخادعوهم ولا تما كروهم بالمطل والتواني في ذهاب الأيام، فإن وصلوا إليكم بمن أجابهم من أهل الحرب وقد أستسلموا وتابوا من حدثهم وجاءوا بالنساء المسلمات فاقبلوا ذلك منهم،ولا تعرضوا لأحد ممن جاءكم تائبا مستأمنا مستسلما بسفك دمه ولا انتهاك حرمته ولا سبي ذريته ولا غنيمة ماله، وليكونوا مثلكم آمنين، واحفظوهم ألا يرجعوا الى هرب من أيديكم، وتأمروهم أن يرسلوا إلى من وراءهم من أصحابهم أن يلقوا بايديهم إلى ما ألقوا هؤلاء بأيديهم، وتأمروهم أن يبعثوا إلى من وراءهم باحضار جزية هولاء الذين قد أمنتموهم الماضية، ولا يعلموا بما تريدون فيهم،فإن جاء الذين وراءهم كما جاء هولاء وألقوا بأيديهم فاقبلوا ذلك منهم،وخذوا جزية من وصل إليكم منهم،وإما من تمرد وأراد أن يبعث بجزيته ويقيم في منزله على حدثه فلا تقبلوا ذلك منهم،ومن صار منهم إلى أمانكم وعهدكم فليكونوا في أسركم آمنين، وأحسنوا إليهم في طعامهم وشرابهم، وامنعوهم ممن أراد ظلمهم حتى توصلوهم إليّ والى المسلمين إن شاء الله تعالى ، إلى أن قال: وإذا التحمت الحرب بينكم وبينهم فلا تقتلوا صبيا صغيرا، ولا شيخا كبيرا ولا إمراة،إلا شيخا أو امرأة أعانوا على القتال، وما قتلتموه عند المحاربة،فلا تمثلوا به،فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن المثلة،وكذلك ما أخذتم من الجزية فادفعوا إليّ، وأما إن كان فيه شئ من الصدقات على أحد من أهل الصلاة (المسلمين) فقبضتموه ففرقوا ثلثة على فقراء البلد بالإجتهاد منكم في ذلك،وارفعوا إليّ ثلثيه)، وهو عهد طويل، وهو يدل على أن نصارى سقطرى لم يكونوا كلهم نقضوا العهد،وإنما كان هناك قسم منهم بقي على عهده للمسلمين،ولعله كان هناك هجوم نصراني حبشي على الحامية العمانية بهدف إحتلالها وأخذها من المسلمين، وهو من ينقله الشيخ أبو اسحاق اطفيش عن محمد علي الزرقا من كتابه (عُمان) إلا أن محمد علي البار ذكر أن الأحباش أغروا نصارى سقطرى وأمدوهم بالسلاح والرجال فنقضوا العهد وقتلوا والي الإمام الصلت بن مالك الخروصي.
مؤكدا انه وعلى العموم فقد نجحت الحملة العسكرية العمانية، في هزيمة الناكثين واستعادة الجزيرة، وعادت سقطرى إلى حضيرة الدولة الإسلامية العمانية وتعايش المسلمون والمسيحيون فيها منذ ذلك التاريخ على خير وئام وأفضل مرام،حتى أنهم رفضوا التعاون مع البرتغاليين والصليبيين،وتعاونوا مع المسلمين في مواجهة البرتغاليين،الأمر الذي جعل البرتغاليين ينسحبون منها.

* المحور الرابع: (التعامل مع المجوس والهندوس)
وحول التعامل مع المجوس قال الباحث: المجوس كلمة فارسية، نسبة إلى موكوس رئيس لهم كان شعر أذنيه كثيفا،ثم عرب إلى موجوس،ث م أسقطت الواو لكثرة الاستعمال فقيل مجوس،وهي ديانة أهل فارس منذ القدم وحتى ما قبل الإسلام، وهم يعبدون النار، وقد أنتشرت معابد النار في أقاليم خراسان وفارس، وصار لها بيوت مشهورة، وقد تفرعت عن المجوسية فرق عديدة تصل إلى سبعين فرقة منها الزرادشتية وهي أشهرها والمانوية والماثنوية والكيومرتية والمزدكية .. وغيرها، وفلسفة الديانة المجوسية والفرق المنبثقة عنها تدور حول النور والظلمة، على اعتبار أن النور أصل الخير أو إله الخير، وأن الظلام أصل الشر أو إله الشر لذلك يقول أبو الطيب المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد * تخبر أن المانوية تكذب
ويدعون أن لهم كتابا سماويا أو ربانيا،بل وتدعي الزرادشتية أن زرادشت كان نبيا مرسلا.
وينفى الإمام العوني أن يكونوا أهل كتاب بقوله:(والدليل على أن لا كتاب لهم،قول النبي (صلى الله عليه وسلم)، سنوا بهم سنة أهل الكتاب، ولو كان لهم كتاب ما قال النبي (صلى الله عليه وسلم)، سنوا بهم سنة غيرهم من أهل الكتاب،والدليل الثاني على أن لا كتاب لهم،فإن النبي (صلى الله عليه وسلم)،لما كتب إلى وينفى الإمام العوني أن يكونوا أهل كتاب بقوله:(والدليل على أن لا كتاب لهم،قول النبي (صلى الله عليه وسلم)، سنوا بهم سنة أهل الكتاب،ولو كان لهم كتاب ما قال النبي (صلى الله عليه وسلم)،سنوا بهم سنة غيرهم من أهل الكتاب،والدليل الثاني،على أن لا كتاب لهم،فإن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لما كتب إلى قيصر،كتب: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .. الآية، وكتب إلى كسرى:من محمد رسول الله إلى كسرى، وفي هذا دليل على أن كسرى ليس من أهل الكتاب، وكسرى مجوسي).
مشيرا الى ان الإسلام قد عامل المجوس معاملة أهل الكتاب لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (سنّوا بهم سنة أهل الكتاب)، وهل لشبهة الدعوى بأنهم أهل الكتاب،عاملهم الإسلام معاملة أهل الكتاب (اليهود والنصارى)؟ أم أن هناك أمرا ما؟عاملهم الإسلام به على ذلك؟ وهل التسنين بمعاملتهم كأهل الكتاب،هو في قبول الجزية منهم فقط؟ أم في كل ما يعامل به أهل الكتاب؟.
أما القول بنجاستهم فهناك خلاف بين المذاهب الإسلامية، وفي المذهب الإباضي خلاف في ذلك فقد نقل العوتبي قول أبي الحسن الذي يقول فبين اصحابنا في اختلاف أنجاس المجوس وجميع أحوالهم ولعل هذا الاختلاف جعل بعض العلماء العمانيين، لا يرى نجاسبتهم، كما أن في تزوج نسائهم،وأكل ذبائحهم اختلافا أيضا بين علما الأمة،لان زيادة الحديث القائلة،غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم، لم تصح عند المحدثين، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أخذ الجزية من مجوس هجر، وكان الخليفة عمر بن الخطاب همّ أن يعاملهم معاملة مشركي العرب،ولم يأخذ الجزية منهم، حتى شهد له عبد الرحمن بن عوف بانه عليه الصلاة والسلام أخذها من مجوس هجر، لان الخليفة كان متحفظا عن أخذها منهم قائلا: ما أدري ما أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب، فقال عبد الرحمن بن عوف: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، من هنالك قيل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخذ الجزية من مجوس هجر، وعمر أخذها من مجوس فارس، وعثمان أخذها من البربر، فأصبح ذالك تشريعا إسلاميا، لذلك يقال أن الجزية مأخوذة من أهل الكتاب بالتنزيل ومن المجوس بالسنة، وعلى الصحيح أن البربركانو وثنيين ولم يكونوا مجوسا، وهذا يدل على أن الوثنيين من الاعاجم وأصحاب الديانات الوضعية الأخرى يعاملون معاملة أهل الكتاب كالمجوس، على أن المسلمين أكتفوا بأخذ الجزية من المجوس وإقرارهم على دياناتهم وممارسة طقوسهم، فان أمير المؤمنيين أخذ منهم الجزية بخبر عبد الرحمن بن عوف ولم يسأل عما وراء ذلك،أي تركهم وشأنهم على عبادتهم،دون التدخل في ذلك،وعندما سئل الحسن البصري عن نيران المجوس لماذا تركت،أجاب بالقول،على ذلك صولحوا.
أما الهندوس فهم نسبة الى الديانات الهندية أو الهندوسية أو الهندوكية، وهي من الديانات القديمة جدا،وهي ديانة غالب أهل الهند، ولهذه الديانة كتب عديدة أهمها كتب الويدا، وقد تفرعت عن الديانة الهندوسية ديانات أخرى كالجينية والبوذية والكونفوشية وقد مرت الديانة الهندوسية بمراحل من التطور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، والى أن استقرت على الحال الذي هي عليه.
* الخاتمة:
وفي خاتمة هذا البحث القيّم يقول الشيخ السيابي: عرفنا مما مرّ كيفية التعامل الإسلامي مع غير المسلمين من اليهود والنصارى، والمجوس وفرقهم وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، كالهندوسية والحبينية والبوذية والكونفوشية الصينية.
وعرفنا أن الاسلام لم يقبل من مشركي العرب إلا الدخول في الإسلام،أو الاستعداد للحرب والقتل والقتال،لأن الله تعالى اختارهم لحمل رسالة الاسلام خاتمة الرسالات الإلهية،وكون آخر الأنبياء،محمد (صلى الله عليه وسلم) منهم،فاذا تخلفوا عن هذه المهمة العظيمة الشريفة فغيرهم سوف يتخلف عن ذلك،لذلك جاء قول الله تعالى:(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) {الزخرف/44}.
أما أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فقد اكتفى منهم الاسلام بدفع الجزية مقابل حمايتهم من الاعتداء عليهم،ودفع الظلم عنهم،باعتبارهم أهل كتاب سماوي كالتوارة عند اليهود والانجيل عند النصارى،ولذلك أحل الله الزواج للمسلمين من نسائهم وأحل ذبائحهم وأكل طعامهم،ومن هنالك قال جمهور الأمة الاسلامية بطهارتهم،أي طهارة ذواتهم.
وبالنسبة الى المجوس فجميع فرقهم التي أوصلها علماء الفرق الى سبعين فرقة، فان المسلمين قبلوا منهم الجزية بالسنة واتفاق الأمة لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)،وأخذها من مجوس هجر،وأخذها عمر بن الخطاب من مجوس فارس.
وأما غيرهم من أصحاب الديانات الاخرى،كالهندوس والبوذيين وغيرهم من وثنيي العجم، فالظاهر أن المسلمين عاملوهم معاملة المجوس فقبلوا الجزية منهم،فقد أخذها عثمان بن عفان من البربر وكانوا وثنيين.
ولعل ذلك لتشابههم في عبادة المخلوقات كالنار والحيوان والظواهر الكونية.
على أنه يبقى القول بطهارة مشركي العرب والمجوس والهندوس والبوذيين والكونفوشيين وغيرهم من وثنيي العجم، فان جمهور المسلمين على القول بطهارتهم،أي طهارة ذواتهم،أما جمهور الاباضية فانهم يقولون بنجاستهم،أي نجاسة ذواتهم،مستدلين بالآية الكريمة:(ْإِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) {التوبة 28}.
غير أن هناك قولا في المذهب يقول بطهارتهم، معتبرا أن النجاسة المذكورة في الآية نجاسة معنوية وليست حسية،لخسة الشرك ووجوب النفرة منه، وعلل الامام ابن بركة هذا القول بالقول، لو كانت العين نجسة،لما تبدل ذلك بالاسلام.
وفي رأيي إن هذا القول، أي القول بطهارة جميع المشركين أو الوثنيين الذين هم غير أهل الكتاب، هو القول المناسب لهذا العصر الذي تقارب فيه العالم بعضه من بعض،وتقاربت فيه شعوب الأرض وارتبطت فيه مصالح البشر من أعمال وتجارة واقتصاد إلى غير ذلك من المصالح في دنيا الناس. لانه كما يقول الإمام محمد بن عبدالله الخليلي: (الأخذ باضعف الأقوال لتغير الأحوال أولى، على أن قوة القول من ضعفه فقها، إنما يرجع ذلك إلى البيئة المكانية والزمانية التي يعيشها الفقه واقعا).
وفقه الواقع المعايش يقتضي الأخذ بالأيسر من الأقوال، ومن المعلوم أن الكثير من العمانيين، ولعل من غير العمانيين يمتنعون عن استعمال خدم المنازل من غير المسلمين وأهل الكتاب، وكذلك يمتنعون عن الأكل من طعامهم في بلدانهم التي يسافرون إليها، اعتمادا على القول القائل بنجاستهم، وهذا فيه من العنت والمشقة ما فيه، الأمر الذي يجعل بعض الناس من الهندوس والبوذيين يدّعون المسيحية لكي يقبلوا للعمل في المنازل، وهنا يقول الامام السالمي: (وذهب أكثر قومنا وبعض أصحابنا إلى طهارة أبدان المشركين، بل حكى الفخر اتفاق الفقهاء الى ذلك، وإليه يميل أبو محمد)، وعلى كل حال فهي مسألة رأي، ومسائل الرأي من الفروع ولا يقطع العذر فيها بالخلاف.