[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
رد الفعل والقلق المصري مبعثه لم يكن الخوف من تأثيرات محتملة للقرار على الاقتصاد المصري لأن حجم المعونة لا يمثل أكثر من 2% من حجم الموازنة المصرية والمبالغ المحتجزة هزيلة ولا يترتب عليها أضرار يصعب علاجها، ولكن بسبب خطورة الدلالات السياسية التي ينطوي عليها بيان الكونجرس باتهام صريح لمصر بأنها دولة لا تحترم حقوق الإنسان، ويحرض دول العالم أن تفرض على مصر عقوبات دولية..

عقب توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في العام 1978م برعاية أميركية, أرادت إدارة الرئيس جيمي كارتر مكافأة الطرفين الموقعين وتشجيع دول أخرى للانضمام للاتفاقية, فقررت تخصيص معونة سنوية لإسرائيل مقدارها 3.1 مليار دولار سنويا، مقابل 2.1 مليار دولار لمصر؛ جزء كبير منها معونات عسكرية والباقي معونات اقتصادية تعينها على مواجهة المقاطعة العربية التي رفضت التطبيع في ذلك الوقت مع إسرائيل، وبينما ظلت إسرائيل تحصل عليها "مبلغ إجمالي سائل" تتصرف فيها كيفما تشاء، كانت المعونة التي تقدم لمصر مشروطة وموزعة على عدة قطاعات وتتسلمها مصر على هيئة معدات عسكرية وعقود صيانة وتدريب، ومعونة فنية لمشروعات خدمية يختارها الجانب الأميركي لخدمة مصالحه, ويذهب جزء كبير من مبلغ المعونة أجورا ومرتبات للشركات والمستشارين والموظفين الأميركان.
وطوال الثلاثين عاما الماضية من عمر المعونة الأميركية، كان ملف حقوق الإنسان وحماية الأقليات والجمعيات الأهلية، الفزاعة التي ترفعها الإدارة الأميركية في وجه النظام في مصر للضغط عليه مقابل الحصول على المعونة كاملة، في محاولة للنيل من استقلال القرار المصري وتقييد دورها في محيطها العربي والإقليمي، وكان لزاما على الرئيس الأسبق حسني مبارك زيارة واشنطن كل عام لمحاولة إنقاذ المعونة ويتحمل في سبيل ذلك "رذالة" أعضاء الكونجرس واستفزازات الإدارة الأميركية؛ ومظاهرات صاخبة لأقباط المهجر الذين كانوا يضغطون على مبارك من أجل بناء الكنائس وحماية الأقباط في مصر خصوصا بمحافظات الصعيد وكان مبارك يرى المعونة بمثابة "ضمانة دولية على استقرار الأوضاع في مصر" وتراها أميركا ضمانة لأمن إسرائيل، حتى "زهق" مبارك في آخر سني حكمه وتوقف عن الذهاب لأميركا واكتفى بإرسال نجله جمال الذي كان يستغل الزيارة ليمهد الطريق لتمرير ملف التوريث مع الأميركان.
تعالت الأصوات المستفيدة من هذه المعونة تطالب المصريين بضرورة الانكفاء على الذات والحفاظ على علاقات مصر مع الغرب وتفادي الصدام مع أميركا وإسرائيل، معتبرين الدعوة لاستقلال القرار الوطني والتأكيد على الهوية والحفاظ على البعد العروبي والقومي إعلانا للحرب ووأدا لجهود الانفتاح والتنمية الاقتصادية الرأسمالية ـ المزعومة ـ التي لم ير أثرها السواد الأعظم من المصريين، بعد أن تدهورت أوضاعهم الاجتماعية خلال العقود الماضية واضطر أغلبهم للهجرة أو العيش تحت خط الفقر ومكابدة الظلم والتهميش الذي أدى في نهاية المطاف لاندلاع ثورة "25 يناير2011م"، التي تعالت خلالها أصوات تدعو لرفض المعونة ورفض الاحتواء والإملاءات الأميركية.
وبدأت رحلة قضم المعونة الأميركية لمصر في تسعينيات القرن الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراد أميركا بالهيمنة على العالم، فلم تعد تخشى أن تذهب مصر إلى قطب دولي آخر، ورغم بزوغ روسيا بوتين كقطب دولي بعد ثورات الربيع واتجاه مصر/السيسي لتنويع مصادر السلاح وعدم الاعتماد على الجانب الأميركي الذي ما زال يمارس نفس العنجهية ويمارس شتى أنواع الضغوط على الجيش المصري عقابا له على الانحياز للإرادة الشعبية التي خرجت في 30 يونيو 2013 لتطيح بحكم الإخوان، فجمدت صفقات التسليح المتفق عليها وأوقفت عقود الصيانة وقلصت جزءا كبيرا من المعونة العسكرية والاقتصادية، في الوقت الذي زاد الدعم الأميركي لإسرائيل وضاعفت حجم المعونة المقدمة لها، وغضت الطرف عن انتهاكات إسرائيل اليومية لحقوق الإنسان الفلسطيني وممارسة جرائم القتل خارج القانون وسياسة العقاب الجماعي والتعذيب والفصل العنصري وتدنيس الأماكن المقدسة وتعطيل الشعائر الدينية تحت أنظار منظمات حقوق الإنسان الدولية.
عندما جاء ترامب تخيل البعض أن العلاقات المصرية الأميركية ستبعث من جديد، بعدما دخل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي البيت الأبيض لأول مرة بعد زيارتين لأميركا رفض خلالها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما استقباله، وتحدث ترامب عن صفحة جديدة وطفرة في مستوى العلاقات بين البلدين، ولكن الواقع كان محبطا للمصريين، فلم تمر شهور قليلة، حتى شرع الكونجرس في مناقشة الأوضاع في مصر وشن الأعضاء هجوما ضاريا على النظام المصري واتهموه بانتهاك حقوق الإنسان، واتصل وزير الخارجية الأميركي ليبلغ نظيره المصري بتجميد جزء كبير من المعونة لحين تنفيذ ملاحظات الكونجرس، كان للقرار الأميركي وقع الصدمة على الإدارة المصرية وكان ردها سريعا وحادا وحمل تهديدا مبطنا بتأثير القرار على المصالح الأميركية المشتركة، خصوصا أن القرار اتخذ قبل أيام من استئناف مناورات النجم الساطع بين الجيشين المصري والأميركي بعد خمس سنوات من التوقف، وأثناء زيارة زوج ابنة ترامب ومسؤول ملف الشرق الأوسط لمصر.
رد الفعل والقلق المصري مبعثه لم يكن الخوف من تأثيرات محتملة للقرار على الاقتصاد المصري لأن حجم المعونة لا يمثل أكثر من 2% من حجم الموازنة المصرية والمبالغ المحتجزة هزيلة ولا يترتب عليها أضرار يصعب علاجها، ولكن بسبب خطورة الدلالات السياسية التي ينطوي عليها بيان الكونجرس باتهام صريح لمصر بأنها دولة لا تحترم حقوق الإنسان، ويحرض دول العالم أن تفرض على مصر عقوبات دولية، كما أنه كشف حجم التناقض والخلل الذي تتسم به بنية العلاقات المصرية ـ الأميركية في المرحلة الراهنة.
باستثناء إسرائيل حرصت أميركا على مدار تاريخها أن تظل المعونات الخارجية، أهم أدوات الضغط لرسم وتنفيذ السياسة الخارجية لأميركا، وسبق للإدارات الأميركية المتعاقبة استخدامها لإغواء الدول أو معاقبتها، ففي عهد آيزنهاور الذي خرج من الحرب منتصرا وانتزعت في عصره أميركا زعامة العالم من بريطانيا بعدما انهارت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، جرت محاولة لإغواء مصر بالمساهمة في تمويل مشروع بناء السد العالي مقابل التطبيع مع إسرائيل ومساعدة أميركا في محاصرة واحتواء المد الشيوعي وهزيمة الاتحاد السوفيتي، غير أن حرص جمال عبدالناصر على استقلال القرار المصري دفعه لرفض الشروط والإملاءات الأميركية، فغضب آيزنهاور وسحب الموافقة على تمويل السد، ورد عبدالناصر بتأميم القناة، وتكرر الأمر في عهد الرئيس الأميركي جونسون الذي قرر إلغاء تسهيلات شراء القمح الأميركي لمصر، وكان رد عبدالناصر الشهير: "إن مصر لن تبيع استقلال قرارها واللي مش عاجبه يشرب من البحر الأبيض وإذا لم تكفه فليشرب من البحر الأحمر".