عرض ـ حسام محمود
لا نتصور أن الاهتمام بنظرية الخطاب الفكري والأيدولوجى سيكون داخل العالم العربي بهذه الحدة المتزايدة حاليا ، وذلك بعد عصور من التراجع لولا ارتباطه فى المقام الأول باسم الأكاديمي الأميركي والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد الذى استطاع أن يجترح وبكثير من التفرد تيارا ألقى ولا يزال يشمل بظلاله وتأثيره العالم ككل ، ومعنى ذلك أن الرجل تجاوز كل الحدود الثقافية والفكرية للخطاب ، ومن ناحية الحضور هناك كثير من الفطنة الثقافية والإسهام المؤثر حتى فى فكر العالم العربى الذى انحدر منه إدوارد ، بل تدرج فيه بفلسطين ومصر وبيروت قبل أن تكتمل صورته في نيويورك ، وتجواله بالعالم الذي كان مهيئا لاستقبال فكر واعد ومعرفة بدأت في استيعابها النظريات الأكاديمية.
تقويم الاستشراف
في كتاب "الوعي المحلق" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة لمؤلفيه إدوارد سعيد ويحيى بن الوليد هناك فهم ومن ثم نقد لثقافة إدوارد سعيد نتغول فيها من ناحية الاستشراف الامبريالي ونزعة الإمبراطورية الفكرية والحضارية التي تفصل الشرق عن الغرب ، ويتصادمان أحيانا بفعل وتيرتها التفاعلية ، ويلقى ادوارد الضوء على أساليب تزييف الخطاب الاعلامى عن طريق الاستشراف نحو تبرير الاستعمار وإشاعة فوضى ثقافات احتلالية غربية . ارتقى ادوارد سعيد فى سياق النقد للاستشراف بالعالم العربي المثقل بمظالم الاستعمار وبراثن التخلف إلى مصاف السؤال العالمي خصوصا من ناحية فلسطين التي ولد فيها ، وارتقى إلى مدار الفكرة المقلقة داخل الغرب الذى لا يزال من وجوه كثيرة متصهينا يتأثر بمزاعم إسرائيل الفكرية غير السوية ، وكل ذلك باعتماد ادوارد على منظور ثقافي تحليلي ثاقب برهن فيه على أنه لا مجال للمداورة والمراوغة والمهادنة الفكرية حول سياسات نهب الشعوب ، فبعض المستشرقين دأب على تبرير النزعة الاستعمارية والاحتفالية الصهيونية وكأنه البحث عن الهوية المفقودة ، بل أخذ ثمن الأفكار الزائفة من اللوبي الصهيوني وحتى من أميركا ، إن منظور نقد الاستشراف فى هذا الشأن لا يخلو فى النظر الأخير من نقد العنف بعنف الخطاب ، فهو عنف خطاب المثقف النقدي الجدلي الاعتراضي من ناحية، وعنف الملتزم الشاهد على قضية مصير العرب من ناحية موازية . ولعل أول ما يمكن تأكيده وليس من شك فى أننا لا نقصد هنا التأكيد الايجابي الذى تحدث عنه ميشال فوكو ، فهو التكوين الأكاديمي الصلب الذي يجعل الخطاب لغة لاستخدام القوة لدرء الأعداء ، والدعوة لعدم خلط أوراق الأفكار والمتاجرة بالقضايا من منظور غرس ثقافات مزيفة . أما استخدام السياسة والقوة العسكرية فيأتي بعد استثمار أبواق الإعلام والفكر والدبلوماسية فى محاولة لفرض سلام شامل وعادل بمنطقة الشرق الأوسط . ففكر الصراع بين الشرق والغرب تبلورت وتمركزت بالمنطقة العربية التي تعج بثقافات متباينة لكنها لا تنسى أبدا حقوق شعوبها المنهوبة خاصة بفلسطين ، ويجب أن تتجلى هذه القضايا للعيان في العالم قبل اللجوء إلى تدويل القضايا بل ولقوة السلاح ، فسلاح القلم بتار وأحيانا يكون أقوى من البارود والقنابل ، والاستعمار الصهيوني للأراضي الفلسطينية قام كمستعمرات فكرية قبل إقامتها فعليا ، وأنشأت بعد توجيه سهام ثقافات مغلوطة حول حق العودة لأرض الميعاد ، وحقوق زائفة ليهود أرادوا سلب حقوق الآخرين بل وحتى طمس أفكارهم ومعتقداتهم والإساءة لأديانهم ، والاستيلاء على أماكنها المقدسة ، وذلك بغية الوصول إلى حلم غير مشروع تروج له آلة الإعلام الصهيونية وآلة الفكر الاستشراقي على كونه رفع ظلم التاريخ عن اليهود بإبراز محارق النازية سواء كانت أو لم تكن ، وهو فى حقيقة الأمر فكر تآمري يوقع الظلم على العرب ، ويقصد الإسرائيليين عن طريق الترويج له الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة ، تحت غطاء إعلامي وثقافي لتبرير مزاعم كاذبة ، فالاستعمار الأوروبي غير ثقافات وأفكار شعوب الكرة الأرضية خاصة العرب ، والاحتلال الصهيوني لفلسطين وأراضى العرب أعاد صورة الاستعمار القديم للأذهان ، ولكنه كان قائما على تفريغ الهوية قبل الكيان السكاني والديموغرافى العربي من الأراضي الفلسطينية ، فهو حكم بالإعدام على شعب بالكامل ، وجريمة لا تغتفر أو تزول آثارها بمرور الوقت والزمن ، فالأجيال العربية تتوارث ثقافة الثأر من العدو الصهيوني الذى يريد عن طريق آلة إعلامه المدمرة للحقائق طمس أفكار حق العودة واسترداد الأرض ، واللعب بنغمات تعرض اليهود للظلم بفكر التضليل .
الإرث الثقافى
فى ضوء الأحادية الثقافية لا يبدو غريبا أن تكون العلاقة بين الشرق والغرب علاقة قوية ، وعلاقة تطبعها درجات متباينة من الهيمنة المعقدة . ولا يبدو غريبا أن يتقوم الاستشراق على التفوق ، أو ما يعنيه إدوارد سعيد بالتمييز الابستيمولوجى والانطولوجى بين الغرب والشرق جنبا الى جنب . أى فهم الايدولوجيات الحضارية ونزاع الأفكار والثقافات والمعتقدات بين الطرفين . فهناك قواعد ذكرها الكثير من المؤرخين والشعراء مثل مقولة الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنغ الشهيرة الشرق والغرب كمستقيمين متوازيين لا يلتقيان بلغة جازمة ومباشرة . وما يصنعه الغرب حاليا هو محاولة تدويل أفكار وثقافات وقضايا الشرق لخدمة مصالحه ، وخدمه مصالح الإمبراطوريات الامبريالية ، ولكن يرى إدوارد أن الشرق والغرب التقيا بالفعل , ولكن كان هذا اللقاء احتلالي يركز على النهب والسلب من قبل إمبراطوريات الغرب لحضارات الشرق ، وتحول الخطاب الغربي المعاصر للبحث عن مصالح الاقتصاد حتى لو كانت على حساب الشرق الذي يئن فى ظلمات الفقر والمرض ، فكيف يمكن للثقافات أن تحيا والفقر المظلم يصبغ حياة أبناء الشرق وغالبية المجتمعات العربية ؟ وكيف يدافع عن حقه السياسي من لا يملك قوته أو يكون له رأى ووزن عالمي ؟ إن الخطاب العربي المنوط الآن هو كيفية الخروج من عنق الزجاجة الاقتصادي لمواجهة الامبريالية الغربية المهيمنة على الأفكار والثقافة والاقتصاد والسياسة فى العالم ، فبدون مواجهة حاسمة ستضيع الهوية الثقافية العربية فى ظلمات الغربنة والأمركة ، والبحث عن مخرج يكون بإصلاح الذات وتقويم أفكار الأجيال الشابة وغرس الثقافات العربية الأصيلة فى الأجيال الناشئة كى تحسم معركة الاستشراق الزائف والامبريالية الماجنة والعولمة الطامسة للهوية الثقافية ، ولعل النهم الشرقى والعربى برؤى الاستشراق الغربى نحو صورة الإسلام فى عيون الغرب وأوروبا جعل المفكرين العرب يتصدون لمحاولات خلط أوراق الثقافة مع السياسة والحضارة ، فالإسلام ظلم كثيرا من قبل العديد من المستشرقين الذين وصل بهم الأمر لحدود لطخت أيادي المسلمين بالدماء ، ولصقت الارهاب بالمسلمين ، خاصة أن هذه الأكاذيب كانت تستغل التبعية الفكرية والثقافية المعاصرة للشرق والمنطقة العربية للغرب خاصة أوروبا وأميركا ، إلا أن سلاح القلم العربي الصادق والفكر الإسلامي المستنير تجلى عبر ساحات إعلامية حملت مشاعل تضيء ظلام الأكاذيب وتزيل حلاكتها ، والتى يروجها بعض المستشرقين من معدومي الضمير للنيل من العروبة والإسلام ، فالإسلام حمل حضارة فريدة وعلما غزيرا لن يتكرر ، وفكرا مستنيرا ، وفنا راقيا ، وثقافة خالدة أضاءت الماضي ، ورسمت مستقبل شعوب الأرض عبر العصور ، ومكنت الإنسان من معرفة حقائق الكون والوجود .