[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
مثَّل ولا يزال الاهتمام بمسيرة التعليم أحد المرتكزات الأساسية في فكر مؤسس نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ في عملية البناء الإنساني، فالشعوب تبني حضارتها بالعلم والعلماء والباحثين المبدعين في مختلف المجالات الذين تترجم عصارات عقولهم إلى تطور وتنمية ووضع حلول لكل ما يواجه الحضارة الإنسانية من عقبات، وسط أجواء واسعة من الحرية تُعطى للفكر والعقل لأن ينبغا ويعطيا، ودائمًا ينظر إلى الإبداع العلمي والفكري والثقافي والمعرفي على أنه الثمرة اليانعة للاستثمار الناجح في الرأسمال البشري، ويعبر عن حجم الجهود المشتركة والمضنية والمخلصة التي والت هذا الاستثمار منذ البداية.
وفي سبيل ذلك لا بد من إنعاش الذاكرة بذلك اليوم الأغر الذي صدحت فيه كلمات جلالة القائد ـ أيده الله ـ "سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة"، وهي كلمات تعبر عن حجم التحدي وقوة الإرادة والشكيمة والعزم في تحطيم الصعاب على صخرتها، وتؤكد قوة الرهان على الإنسان العماني وحسن الاختيار نحو الحقيقة الكبرى بإقامة نهضة كبرى وشامخة.
لقد كان لتلك الكلمات تاريخ خاص بها يُسطَّر على جبين هذا الوطن الغالي، وذلك لما أحدثته من مفاعيل على الأرض، حيث غيرت وجه الحدث واتجاهه إلى القبلة التي يتجه إليها مؤشر بوصلة الفكر الخلاق والعقل المبدع، فلم تظل الشجرة شجرة، ولم تظل الخيمة خيمة، ولم يظل العريش عريشًا، وإنما صارت صروحًا شامخة تسامق أنجم السماء تشير الإحصائيات الصادرة عنها بكل وضوح إلى الإنجاز الكبير الذي تحقق في مجال التعليم والحصون التعليمية والعلمية التي نهضت وتنهض إلى يومنا هذا، فلم تقف عملية الاهتمام عند حدود معينة، وعند زمن محدد، بل حرصت على أن تكون ذات ديناميكية متفاعلة مع الوسط، آخذة في الحسبان الحراك المجتمعي ونمط عيشه وتفكيره، والحركة الدائبة في المحيط الإقليمي والدولي، وإفرازات العصر، وما تفرزه العولمة والمدنية.
وإذا كان قطاع التعليم مرتكزًا من مرتكزات التنمية الشاملة، فإن المرتكز الآخر هو قطاع الصحة، فلم يغب القطاع الصحي عن دائرة الاهتمام في فكر جلالة عاهل البلاد المفدى ـ أعزه الله ـ، وهنا نستذكر أيضًا حجم التحديات التي واكبت عملية مد مظلة الصحة لربوع الوطن، فلا تزال الذاكرة متقدة تستحضر حملات العلاج والتلقيح الوقائي متحدية وعورة التضاريس وأهمية الوصول إلى أعالي الجبال وعبر الطائرات العمودية. وتأكيدًا على أهمية هذين القطاعين ودورهما فلم تكفل الدولة مجانيتهما فحسب، بل نص عليهما النظام الأساسي في مادتيه الـ(12 المبادئ الاجتماعية، و13 المبادئ الثقافية).
وعنوان المقال (أعلاه) قد يكون فيه شيء من الإثارة (المَنُّ هو من الأوزان المعروفة في عُمان ويساوي أربعة كيلوجرامات)، إلا أن راهن الأحداث وتفاعلاتها وتحركاتها يعطي إرهاصات بوجود مزاج يريد أن يضع لسفينة النهضة وتنميتها الشاملة أشرعة تناسب رياحًا ليست رياحها، لكي ينسجم مسيرها مع الرغبة في انزياح الخرائط الملازمة لسفينة النهضة والتنمية على مدى أربعة وأربعين عامًا. وبالتالي قد تكون الكلمات مقدمةً أو صكوكًا لإرادة الفعل فيما بعد، في مخالفة صريحة لإرادة باني نهضة عُمان ومخالفة واضحة لدستور البلاد، ويصبح حينئذ كل من التعليم والصحة بالوزن، فبقدر ما تدفع تحصل على وزن أكبر.
ولذلك حين تكون الرؤية واضحة تجاه القضايا الوطنية، تتفتق الأذهان عن حلول إبداعية للمحافظة على مصالح الوطن والمواطن في خضم تفاعلات العصر وفي خضم المتغيرات السياسية والأمنية الاقتصادية التي تعصف بدول المنطقة، وحين تكون الرؤية ضبابية مشوشة فإن الأذهان تكون عاجزة عن الإتيان بأي حلول سليمة ومنطقية. ولكن حين تكون الرؤية مبنية على الرأسمالية المتوحشة، فليس مستغربًا أن يتحول التعليم والصحة إلى سلعتين خاضعتين للعرض والطلب حالهما حال أي سلعة استهلاكية وغير استهلاكية. ويبدو أن ما بين المجانية والرأسمالية ما صنع الحداد. وكما نجحت الرأسمالية المتوحشة من قبل في ضرب استفادة الشعوب من الخدمات التي تقدمها المؤسسات المملوكة للدول وإفقارها وذلك بالضغط على حكوماتها بتخصيص مؤسساتها الخدمية، تسعى الرأسمالية جاهدة للقضاء على المجانية، لأنها ترى فيها تفويتًا لفرص اهتبال غنائم هذين القطاعين اللذين رفْعُ المجانية عنهما سيُدر أرباحًا خيالية للرأسمالية المتعطشة لها؛ فحجم الإنفاق عليهما كبير جدًّا.
ومن المؤكد أن هذا المسعى لا يقف وراءه سوى أولئك الذين رضعوا من أثداء الرأسمالية المتوحشة وتربوا على أساليبها الكارثية على المجتمعات، وأنشبوا مخالبها لافتراس الناس على مختلف فئاتهم (مرتفع الدخل ومتوسط الدخل ومحدود الدخل).
الخشية الآن ـ في ظل الواقع الملوث بغيوم الفوضى والإرهاب ـ أن تسلب الشعوب من كل حقوقها الثابتة فتتحول إلى وقود كامل لتدوير تروس الرأسمالية لصالح طغمة من المنتفعين الرأسماليين تلجأ إلى أسلوب التعيير بمجانية حصولها على حقوقها، مع أن هذه الشعوب ما تحصل عليه اليوم من حقوقها الثابتة لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو أقل، وهناك من يستعين بخطابات لا تتفق ومبادئ العدالة والمساواة واحترام الحقوق الواجبة، ويستخدم مصطلحات لا تليق تجاه ذلك.
إن القراءة الواقعية لمجمل التطورات بقضها وقضيضها تعطي صورة واضحة لمن أراد أن يحقق مبدأ التكافلية والعدالة والمساواة، ويبني على متونها مناخًا مستقرًّا منتجًا بعيدًا عن التغريد خارج السرب واختزال الشعوب في رأسماليين نفعيين بعدد أصابع اليد.