جرأة في المناقشة وخلخلة المستقر

ما بين "ثقافة الهبل وتقديس الجهل" علاقة أرادها الكاتب جميل السّلحوت أن تكون واضحة صادمة، ومستفزّة، فقد كشف الأسلاك المعطوبة وأبان عورات العقل قبل عورات الجسد المتهالك، هنا يكون للكتابة معنى التّحدّي ومعنى الاشتباك ومعنى الاختلاف والمعنى المفتوح على سؤال "لماذا يحدث كلّ ما يحدث"؟
يفتح هذا الكتاب شهية الأسئلة التي قد تبدو معضلات في عالم الفكر والثقافة والسياسية، وتقترب وتتماس مع حقول فلسفية متنوعة، فهناك سؤال النهضة، وسؤال العلم، وسؤال الدين والتدين، وسؤال العقل، وسؤال الثقافة وجدوى دور المثقفين وسؤال الإعلام والسياسة والحياة المعاصرة وصولا لسؤال الوجود برمته عبر سؤال التغيير، وكيفية الخروج من هذا المأزق السوداوي الذي وُضِعنا أو وضعنا أنفسنا فيه.
بنى الكاتب بعض مقولاته وخاصّة السّيوثقافيّة على مقولة ابن خلدون في وصفه العرب بصفة الوحشيّة والبعد عن الحضارة والتّحضّر والمدنيّة، فلم ير ابن خلدون في العرب سوى "أمّة وحشيّة أهل نهب وعبث وإذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب". واستعار الكاتب مقولات ابن خلدون في مواضع متعدّدة من الكتاب، مؤسّسا مقولاته ووجهة نظره على تلك المقولات مسوّغا ذلك بقوله في المدخل "ومن يقرأ مقدّمة ابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع، سيجد أنّ ما كتبه عن حال العربان قبل 800 عام، ينطبق على عربان القرن الحادي والعشرين"/ ص 9.
وأوّل تلك المقولات ما ورد في الكتاب ص17، واصفا الأعراف والقيم والعقلية بأنها "وحشية عقلية الصحراء"، ثم عاد وأشار إلى ذلك ص 73، مبينا أن "الهبل والاستهبال باسم الدين" سببه "ثقافة القبيلة الصحراوية الوحشية"، ثم ما يلبث إلى العودة والتذكير بابن خلدون وبمقدمته ص 89-90، فاستهبال الشعوب دينيا "حذر منه المفكر الإسلامي ابن خلدون في المقدمة".
لقد تمدّدت وجهة نظر ابن خلدون في الكتاب كله، بحيث يجد القارئ أن كل ما ورد من مظاهر الهبل والاستهبال وتقديس الجهل يعود إلى تلك العقلية التي وصفها ابن خلدون، وعلى الرغم ممّا قيل أو يقال عن وجهة نظر ابن خلدون واتهامه في تحيزه ضد العرب كأمة، فابن خلدون، وإن وصف أنه مؤسس علم الاجتماع والعمران إلا أن مقولاته تلك في حق العرب لم تكن موضع تسليم، وتم مناقشتها والرد عليها، وتسليم الكاتب السلحوت بها يضع علامة سؤال كبيرة، عدا أنه بنى كتابه في المجمل على هذه المقولة.
وتتجلى مقولة ابن خلدون في الكتاب عند مناقشة دور ما أطلق عليه السلحوت "الإسلاميون الجدد"، وقد وظف هذا المصطلح في كثير من مظاهر الهبل الديني عند إمام الجامع الأمّيّ، وعند الأحزاب الإسلامية في فلسطين وبعض الدول العربية (داعش، وجبهة النصرة، والجبهة الإسلامية للإنقاذ، والإخوان المسلمون) وفلسطينيا حماس، وحزب التحرير وجماعة الدعوة، مستبعدا أحزابا إسلامية أخرى في فلسطين مثلا كالجهاد الإسلامي، هذه الجماعة المعروفة مثلا بولائها لإيران على سبيل المثال، ولم يتعرض كذلك للحركات الصوفية وما لبعضها من تأثير على أتباعها، يصل أحيانا إلى حد الهبل وتقديس الجهل.
وفي الجانب الثقافي، ناقش الكتاب كثيرا من أمراض الثقافة من تهميش لدور المثقفين ولبعض المؤسسات الثقافية، وتدجين بعض المثقفين وكذلك سيطرة "المنظمات غير الحكومية" على بعض تلك المؤسسات عن طريق الدعم "المشبوه" والموجهة لخدمة التطبيع مع دولة الاحتلال (إسرائيل)، وتفشي الأمية بين خريجي الجامعات الفلسطينية، مركزا الكاتب على أهمية دور المثقف في التغيير، ومسؤوليته الأخلاقية والإنسانية في محاربة الهبل ومظاهره.
بين السلحوت ومالك بن نبي وعلي شريعتي:
لم يكن ابن خلدون هو الحاضر الوحيد في هذا الكتاب، بل إن الدارس يجد تلاقيا فكريا مع طروحات كثيرة ومتعددة منذ بدايات عصر النهضة العربية، فلا بد وأنت تقرأ في الكتاب من أن تستحضر ما كتبه شكيب أرسلان وطرحه سؤال: "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم"؟ ومقولات الجامعة الإسلامية أو العربية التي شغل بها جمال الدين الأفغاني، ومقولات علي عبد الرازق في نظام الخلافة الإسلامية.
وحضر أيضا المفكر الجزائري مالك بن نبي وتحديدا في كتابيه "شروط النهضة" و"مشكلة الثقافة"، حيث وردت في الكتابين الأفكار ذاتها التي يتبناها السلحوت في كتابه، وخاصة فيما يتعلق بانتهاء الحضارة العربية ووقوفها عند "ابن خلدون" بوصفه يمثل أقصى درجات مرحلة "العقل" في الحضارة قبل أن تتردى إلى الغريزية، وتسليم بن نبي بأن هناك ثلاثة فلاسفة ساهموا في بناء الحضارة العربية واتصالها مع الغرب، وهم الفارابي وابن رشد، وآخرهم ابن خلدون، وبعد ابن خلدون لا إضافة جديدة على الحضارة العربية والفكر العربي، يقول ابن نبي: "إن المجتمع الإسلامي في عصر الفارابي كان يخلق أفكارا، وأنه كان على عهد ابن رشد يبلغها إلى أوروبا، وأنه بعد ابن خلدون لم يعد قادرا لا على الخلق ولا على التبليغ" "مشكلة الثقافة، ص49-50."

عدا ذلك فإن هناك حضورا بصورة أو بأخرى لأفكار المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي في كتابه "النباهة والاستحمار"، وخاصة فيما يتعلق بالشأن الديني والشأن الثقافي؛ فما أسماه السلحوت "ثقافة الهبل وتقديس الجهل" تجده عند "شريعتي" بمصطلح الاستحمار، فهناك الاستحمار باسم الدين واستحمار باسم الثقافة أيضا.
تناقضات في المسألتين السياسية والثقافية:
لا شك في أن الكتاب يثير مجموعة من الأسئلة التي لا بد من التوقف عندها ومساءلة الفرد لذاته في كل موقع، ولكنه أيضا يظهر في باب آخر تناقضات الكاتب في بعض طروحاته في مسائل متعددة، منها:
- الامتناع عن مناقشة الحالة السياسية الفلسطينية عدا ما أشار إليه من الانقسام السياسي الذي حدث عام 2007.
- الامتناع عن مناقشة دور الأحزاب السياسية غير الإسلامية العلمانية والشيوعية أو ذات التوجه الماركسي، حيث اكتفت بالصمت أو المعارضة الخجولة غير الفاعلة، كان لها بالغ الأثر في الحالة السياسية الفلسطينية المعاصرة، بحيث لم تشكل هذه الأحزاب نقيضا أو معارضة حقيقية تمنح النظام الفلسطيني قوة ما داخليا وخارجيا، وخاصة فيما يتعلق بالمفاوضات مع إسرائيل، إذ ترك المفاوض وحيدا مجردا من كل ما يدعم موقفه، فكانت النتيجة تدني المنجز وقلق الحالة السياسية وانفتاحها على المجهول.
- تناقض مقولات الكتاب فيما يتعلق بالوحدة على أساس قومي مستبعدا الوحدة على أساس ديني، وعلى الرغم من استشهاده بابن خلدون في مقولته ص 76 "أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم على الجملة"، يعود ويفصل في أحوال العرب واختلافهم العرقي واللغوي، والديني كذلك والمذهبي والطائفي، ومع كل ذلك يرى إمكانية الوحدة على أساس قومي مع أن العرب في حقيقتهم (البلاد العربية) ذوو قوميات شتى، ويضرب أمثلة على الدول الموحدة والقوية بأمريكا والصين واليابان والهند، يقول ص 41: "في الهند والصين واليابان مثلا مئات القوميات واللغات ومئات الديانات وهم يعيشون في وئام وتآخ"، فالعبرة ليس بهذا التنوع من وجهة نظري، ولكنها بالنظام الذي يطبق عليها، وقد عاشت الأمة الإسلامية حقبة طويلة تحت النظام الإسلامي بشعوبها المتعددة وقومياتها وحتى دياناتها المختلفة ومذاهبها بوئام وتآخ أيضا.
- الحالة الثقافية أيضا، فيها العديد من التناقضات، ففي حين يسوق الأمثلة على نسبة القراءة واقتناء الكتب وحصة الفرد العربي من القراءة سنويا ومقارنة ذلك بالفرد الغربي، (مراجعة ص 18)، يعود في ص 113 ليشكك في إحصائيات اليونسكو قائلا: "ولديّ ما يثبت عدم دقة إحصائية اليونسكو، وليس عدم مصداقيتها، فاليونسكو تعتمد في إحصائياتها تلك على الكتب المطبوعة والصادرة عن دور نشر في دول فيها مكتبات وطنية، تعطي رقم إيداع لكل كتاب يصدر، ونحن في فلسطين لا مكتبة وطنية عندنا، وبالتالي فإن اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية لا تعرف شيئا عن الكتب التي تصدر عندنا، ولا حتى عن الكتّاب بمن فيهم من صدر لهم عشرات الكتب".
عدا ذلك فإن هناك مؤشرات حقيقية على الاهتمام بالقراءة بنسب معقولة، وما معارض الكتب الدولية التي تقام في الدول العربية والإصرار على تنظيمها كل عام والإقبال عليها وشراء الكتب واقتنائها، ومشاركة دور النشر العربية والأجنبية فيها دليل على رواج الكتاب بين العرب مثقفين وكتابا وقراء عاديين. من جهة ثانية فإن هناك جانبا مهما في رصد هذه الحالة وهو تحول كثير من القراء إلى القراءة الإلكترونية أو التوجه إلى المكتبات العامة، وباعتقادي أن التعميم بهذا الشكل لا يقدم عشر الحقيقة.
وفي تقرير أعدته صحيفة العرب اللندنية فقد كشفت فيه عن اهتمام الشباب العربي بالقراءة موظفين موقع توتير للتفاعل مع الكتب، فقد عنونت الصحيفة تقريرها بـ "رحلة المغردين في عالم الكتاب تكشف أن العرب يقرأون"، وكشف هاشتاغ "كتاب_قرأته_أعجبك" اهتمام الشباب العرب بالقراءة والكتب على اختلاف أنواعها، وأثبت أن المواضيع الجادة والرصينة تحظى باهتمام واسع لدى الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يبحثون عن المعلومة القيمة. ويعرض التقرير أسماء للكتب التي قرأها هؤلاء الشباب أو روجوا لها عبر حساباتهم.
ومهما يكن من أمر الاختلاف أو الاتفاق مع الكاتب في بعض الجزئيات والمقولات إلا أن كتاب "ثقافة الهبل وتقديس الجهل" كتاب يحمل رؤى صاحبه ووجهة نظره وآرائه الجريئة في قضايا السياسة والدين والثقافة المجتمعية والموروث الشعبي، ولا شك في أنه أيضا إضافة للمكتبة العربية والفلسطينية، التي تفتقر إلى مثل هذه الكتب، وهنا تبرز مقولة المفكر مالك بن نبي حيث يقرر في كتابه شروط النهضة (ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي): "ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح أحيانا"/ص 28

فراس حج محم
ناقد وشاعر فلسطيني