في إصداره الجديد "اشتغال الخطاب في الشعر الرثائي العُماني"

مسقط ـ العمانية :
فن الرثاء واحد من أعرق الفنون الشعرية في التجربة الشعرية العالمية، وتحتل الرثائيات مكانة كبيرة في ديوان الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى اليوم. كما إن التجربة الشعرية العمانية قدمت إسهامها في هذا المضمار، وتجلى ذلك في القصائد التي أنشدها الشعراء العمانيون في رثاء الأئمة والعلماء والأصدقاء والأهل، بل هناك مرثيات عُمانية للمدن ولفقدان الكتب.
يقدم الشاعر والأكاديمي العُماني د.خميس بن ماجد الصباري في إصداره الجديد "اشتغال الخطاب في الشعر الرثائي العُماني: مقاربة في الموضوعة والتناص (نماذج حديثة ومعاصرة)"، دراسة نقدية فاحصة لعدد من النصوص الرثائية الشعرية، ويقع الكتاب في 390 صفحة، وقد صدر بالتعاون بين الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء وبيت الغشام للصحافة والنشر والترجمة والإعلان (2017).
يشير الصباري إلى المكانة التي يحتلها فن الرثاء قائلاً إن شعر الرثاء من أصدق فنون الشعر، وأغزرها بوحاً بالعواطف الجياشة والمشاعر الفياضة؛ لأنه "تعبير عن أكباد كوتها الأحزان، وألهبتها المعاناة؛ ومازجتها الرقة؛ فذهبت مذهب الهديل على أفنان النخيل، بنغم محزون، وإيقاع موزون".
وللصباري دراسة سابقة عن الرثاء تحمل عنوان "فن الرثاء عند شاعرات الجاهلية"، صدرت عن منشورات مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية بجامعة نزوى (2009). وسعى فيها إلى جمع ما أمكنه من شعر الرثاء عند الشاعرات في الجاهلية، ودراستها دراسة استقرائية تحليلية، تعتمد على قراءة الخصائص والسمات الجزئية وصولاً إلى العموميات التي تنتظم هذا اللون من الشعر لفظاً ومعنى وصورة.
وقد تنوعت اتجاهات الرثاء عند تلك الشاعرات بحسب ما كشفته الدراسة، فقد رثين الآباء والأعمام والأبناء والإخوان والأزواج، كما رثين قبائلهن، وعلى ضوء هذا التنوع فقد تنوعت طرق التناول النقدي للباحث، حيث درس بنية المرثية، وخصائصها اللفظية والمعنوية وصدقها في الرثاء، والصور الشعرية المتضمنة في المرثية. وتسيطر على تلك جملة من الملامح؛ وهي الوضوح والسهولة في بنية المراثي، كما إن المراثي تستوحي صورها من واقع البيئة المحيطة، وقد نقل إلينا هذا اللون من الشعر جانباً من واقع الحياة الحربية الجاهلية، كما تجلى صدق العاطفة في هذه المراثي وبرعت الشاعرات في تجسيد صورة الفقيد في أجمل صفاته الأخلاقية من جانب، كما برعن في تصوير حالهن من بعد الفراق بصورة عكست الأسى والحرمان المحيط بهن.
ويتكون كتاب "اشتغال الخطاب في الشعر الرثائي العماني" من مدخل وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة. يعنى المدخل بإعطاء لمحة موجزة عن التفاعل العام بين الأوضاع العمانية، وظروفها المحيطة بالحد الزمني للمقاربة، وتسليط الضوء على أهبرز الدراسات المنجزة في الشعر العماني الحديث.
انصبَّ التركيز في الفصل الأول على اشتغال الخطاب في شعر الرثاء العماني، حيث ابتدأ بالتركيز على مفهوم الخطاب، وتحديد طرفيه بينهما، والاتجاهات الرثائية التي خرج إليها هذا الخطاب؛ حيث اتخذ الباحث عينات تشريحية جرى التعامل معها وفق أدوات من المنهج الموضوعاتي الذي يهدف إلى استقراء البؤر المتعالقة التي ترجع إلى ثيمة (فكرة) أساسية متكررة العناصر في نص الأديب، أو في سائر نصوصه؛ بما يمكن أن يوصف بـ "القرابة السرية"، إذ إن هذه القرابة متأتية من روابط متداخلة وعلاقات خفية نسجتها عناصر الموضوع عبر العديد من الوجوه والصور الأشكال في العمل الأدبي.
يستقرئ الفصل الثاني ملامح هيكل قصيدة الرثاء محللاً لها ومستجلياً سيميائيتها المعنوية والتركيبية وذلك عبر استدعاء العلاقات البنيوية العامة؛ من خلال تجانس الجو النفسي في سائر أبيات المرثية، والتحام البنيتين الشكلية والمعنوية. بينما يختص الفصل الثالث بمقاربة التناص في قصائد الرثاء، ومن أهم مواضيع هذا الفصل: التناص الديني والأدبي والتاريخي.
تقوم هذه الدراسة بتتبع القصائد الرثائية في تجارب ستة من الشعراء العمانيين هم، السيد بدر بن هلال بن سيف البوسعيدي (توفي 1385هـ/19665م)، وعبدالله بن محمد بن صالح الطائي (توفي 1394هـ/ 1974م)، وعبدالله بن علي بن عبدالله الخليلي (توفي 1421هـ/ 2001م)، وعبدالله بن ماجد بن ناصر الحضرمي (توفي 1396هـ/ 1976م)، وأبو سرور حميد بن عبدالله بن حميد الجامعي، وأبو معاذ مرشد بن محمد بن راشد الخصيبي. وركزت مقاربة الكتاب على نماذج من الأشعار الرثائية لهؤلاء الشعراء بوصفها ظاهرة أدبية؛ تنتظم في حقل واحد ذي نماذج عديدة من ألوان شعر الرثاء، وكل نموذج منها يقدم صورة خاصة عن طبيعته، وهي في مجموعها صورة نوعية كبرى لشعر رثائي له خصوصيته، الإنسانية، والمكانية، والزمانية. وتناولت هذه المقاربة كذلك اتجاهات خطابية متباينة؛ تمثل الراثي، لكونه عمانياً، والمرثي سواء أكان من عمان أم من خارجها.