الحمد لله الـذي نـزل عـلى عـبـده الـفـرقان لـيكـون للـعـالمـين نـذيـرا ، والصلاة والسلام عـلى المبعـوث رحـمة للـعـالمين وسـراجـا مـنـيرا وعـلى آله وأصاحـبه الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحسان إلى يـوم الـدين وبعـد :
فـلا زال الحـديث مـوصـولا عـن الـفـوائـد التي تشـتمـل عـليها الآيـة الـكـريمة العامـة الشامـلة، قال تعالى:{لـيس البـر أن تـولـوا وجـوهـكـم قـبـل المشـرق والمغـرب 00الخ} )البـقـرة ـ 177).
وقال الحـرافي : فـفـيه أي الإيـمان وبمـا قـبلهـم ، قـهـر النفـس للإذعـان لـمـن هـو مـن جـنسها ، والإيـمان بغـيب مـن لـيس مـن جـنسها ، لـيـكـون في ذلك ما يـزع النفـس عـن هـواها.
وقال القاسمي في قوله تعالى: {وأتى المال عـلي حـبه} أي : أخـرجـه وهـو محـب له راغـب فـيه ، نص عـلى ذلك : أبن مسـعـود وسـعـيـد بن جـبير وغـيرهـما مـن السـلف والخـلف كما ثـبت في الصحـيحـين مـن حـديـث أبي هـريـرة مـرفـوعـا: (أفـضـل الصـدقـة أن تصـدق وأنـت صحيح شـحـيح، تأمـل الـغـنى وتخـشى الفـقـر).
وقــوله: {ذوي القـربى} هـم : قـرابات الـرجـل ، وهـو أولى مـن أعـطى مـن الـصـدقة، وقـد روى الإمام أحـمد والتـرمـذي والنسائي وغـيرهـم عـن سـلمان بن عـامـر قال: قال رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم):(إن الصـدقة عـلى المسكـين صـدقة، وعـلى ذي الرحـم اثنتان صـدقـة وصلة)، وفي الصحـيحـين مـن حـديث زينـب امـرأة عـبـد الله بن مسـعــود، أنها وامـرأة أخـرى سـألتا رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم): أتجـزي الصـدقـة عـنهـما عـلى أزواجهـما وعـلى أيـتام في حجـورهـما؟ ، فـقال رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم): (لهـما أجـران ، أجـر القـرابة وأجـر الصـدقة ) أخـرجـه البخـاري.
وقـد أمـر الله تعالى بالإحـسان إلى القـرابة في غـير مـوضـع مـن كـابه العـزيــز: {واليـتامى} وهـم الـذين لا كاسب لهـم وقـد مات آباؤهـم وهـم ضـعـفاء صغـار دون سـن البـلـوغ، {والمسـاكـين} وهـم الـذين لا يجـدون ما يكـفـيهـم في قـوتهـم وكـسوتهـم وسـكـناهـم، فـيعـطـون ما يسـد به حـاجـتهـم وخـلتهـم، وفي الصحـيحـين عـن أبي هـريـرة أن رسـول الله (صـلى الله عـليه وسـلم) قال:(ليـس المسـكـين بهـذا الطـواف الـذي تـرده التمـرة والتمـرتان واللـقـمة واللـقـمتان ، ولـكــن المسكـين الـذي لا يجـد غـنى يـغـنيه، ولا يـفـطـن له فـيتـصـدق عـليه) (أخـرجـه البخـاري ومسـلم).
وقال الـراغـب الأصـفهاني : إن قـيـل: كـيف اعـتبر الـترتـيب المـذكـور في قـوله تعـالى:{وآتى الـمـال عـلى حـبه .. }: لـمـا كان أولـى مـن يـتـفـقـده الإنـسان بمعـروفـه أقـاربه ، كان تقـديمها أولى ، ثـم عـقـبه باليتامى لأن مـواسـاتهـم بعـد الأقـارب أولى ، ثـم المساكـين الـذينلا مال لهـم حاضـرا ولا غـائبا ، ثـم ذكـر ابن السـبيـلالـذي قـد يـكـون له مال غـائـب، ثـم ذكـر السائلـين الـذين منهـم صادق ومنهـم كاذب ، ثـم ذكـر الـرقاب الـذين لهـم أرباب يـعـولـونهـم ، فـكل واحـد ممـن أخـر ذكـره أقـل فـقـرا ممـن قـدم ذكـره.
قال تعالى:{وأقـام الصـلاة}أي: أتـم أفـعـالها في أوقـاتها ، بـركـوعـها وسجـودها وطـمأنينتها وخـشـوعـها عـلى الـوجـه الشـرعي المرضي ، { وآتى الـزكاة } أي: زكاة المـال المفـروضة عـلى أن المـراد بـذلك إيتـاء المال التنـفـل بالصـدقات والبـر والصلة ،فـقــدم عـلى الفـريضة مـبالغـة في الحـث عـليه ، أو المـراد بهـما المفـروضة ، والأول لبيان المـصارف والثاني لـبيان وجـوب الأداء ، وقــد أبـعـد مـن حـمـل الزكاة هـنا عـلى زكاة النفـس وتخـليصها مـن الأخـلاق الـدنيئة الـرذيلة ، كـقـوله تعالى:{قـد أفـلـح مـن زكاهـا} (الـشمس ـ 9)، وقـوله تعالى:{هـل لك إلى أن تـزكى}(النازعات ـ 18)، ووجـه البـعـد أن الـزكاة المفـروضة هـي المـقـرونة بالصـلاة في الـتـنزيـل لا يـراد بها إلا زكاة المال، وأما مـع الانـفـراد فـعـلى حـسب المقام:{والمـوفــون بعهـدهـم إذا عـاهـدوا} عـطـف عـلى:{مـن آمـن }، فإنه في قـوة أن يـقال ومـن أوفـوا بعـهـدهـم ، وإيـثار صـيغـة الفاعـل للـدلالـة عـلى وجـوب اسـتـمـرار الـوفـاء.
قال الـرازي في تفـسيره الجـزء الخامس من (مـفاتح الغـيب ص 41): اعـلـم أن هـذا العهـد إما أن يكـون بين الـعـبـد وبـين الله، أو بينـه وبـين رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم)، أو بينه وبين سـائـر الناس ، فالأول ما يـلزمه بالنـذور والإيمان ، والثاني: فهـو ما عـاهـد الـرسـول عـليه عـنـد البـيعة: مـن القـيام بالنصيحـة والمظـاهـرة، والمجـاهـدة، ومـوالاة مـن والاه ومـعـاداة مـن عـاداه، والثالث:قــد يكـون مـن الـواجـبات:مـثـل مـا يـلـزم في عـقــود المـعـارضـات مـن التسـليم والتسـلم، وكـذا الـشـرائط التي يـلـتزمها في السـلم والـرهـن، وقـد يـكـون مـن المـنـدوبات: مـثـل الـوفاء بالمـواعـيـد في بـذل المال والاخـلاص في المناصـرة، فالآيـة تتنـاول كل هـذه الأقـسام.
قال ابن كـثير (في تفسيره الجـزء الأول ص 209): وعـكس هـذه الصفة النفـاق ، كـمـا صح في الحـديث:(آيـة المـنافـق ثـلاث: إذا حـدث كـذب ، وإذا وعـد أخـلـف ، وإذا أتمـن خـان وفي رواية:(إذا حـدث كـذب، وإذا عـاهـد غــدر، وإذا خاصـم فجـر) ـ أخـرجـه البخـاري ومسـلم.
وعـن المـبرد: لـو كـنـت ممـن يـقـرأ الـقـرآن لـقـرأت: {ولـكـن الـبر} بفـتح البـاء ، وقـرئ: {ولـكـن الـبار}، وقـرأ ابن عـامـر ونافـع:{ولـكـن الـبر} بالتخـفـيف لـكـن،{ والكـتاب } جـنس كـتب الله أو الـقـرآن {عـلى حـبه } مـع حـب المال والـح به ، كـما قال ابن مسـعـود، أن تـؤتيه وأنـت صحيح شـحيـح ، تأمـل الغـنى وتخـشى الفـقـر ، ولا تهـمل حـتى إذا بـلغـت الحـلـقـوم قـلـت لـفـلان : كـذا وكـذا).
ومـن طـريق ابن مسـعـود في قـوله تعالى: {وآتى المال عـلى حـبه} قال: أن تـؤتـيه وأنـت صحيح شـحيح تأمـل العـيـش وتخـشى الفـقـر، وهـذا مـوقـوف وقـد أخـرج البخـاري ومسـلم كـلاهـما عـن أبي هـريـرة قال: جـاء رجــل إلى رسـول الله (صـلى الله عـليه وسـلم)، فـقال: يا رسـول الله، أي الصـدقـة أعـظـم أجـرا؟ ، قال:(أن تصـدق وأنـت صحيح شـحيح تخشى الفـقـر وتأمـل الغـنى ، ولا تهـمـل حـتى إذا بـلغـت الحـلـقـوم قـلـت: لـفـلان كـذا ولـفـلان كـذا وقـد كان لـفـلان) ، هـذا لفـظ البخـاري.
وقال الـزمخـشري: وقـيـل عـلى حـب الله، وقـيـل عـلى حـب الإيـتـاء يـريـد أن يعـطـيه وهـو طـيب النفـس بإعـطائه، وقـدم ذوي القـربي لأنهـم أحـق ، قال (صـلى الله عـليه وسـلم):(صـدقـتـك عـلى المسكـين صـدقـة ، وعـلى ذوي رحـمـك اثـنتان لأنهـا صـدقـة وصـلة) وقال (عـليه الصـلاة والسـلام): (أفـضل الصـدقة عـلى ذي الـرحـم الكـاشـح) وأطـلـق:{ذوي القـربى واليـتامى} والمـراد الفـقـراء منهـم لـعــدم الإلباس والمسـكـين : الـدائم السـكـون إلى الناس ، لأنه لا شـيء له كالمـسكـير للـدائم،{وابن السـبيـل} المسافـر المنـقـطـع، وجـعــل أبنا للـسـبيـل لمـلازمـته له، كـما يـقال للـص القـاطـع، ابن الطـريـق وقـيـل: هـو الضـيـف لأن السـبيـل يـرعـف به، {والسـائلـين} المستـطــعـمـين.
قال رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم):(للسـائـل حـق وإن جـاء عـلى ظهـر فـرسه ، {وفي الـرقاب} وفي معـاونة المـكاتبين حـتى يـفـكـوا رقابهـم ، وقـيـل : في ابـتياع الـرقـاب واعـتاقـهـا ، وقـيـل في فـك الأسـارى، فإن قـلـت ، ذكـر إيتاء المال في هـذه الـوجـوه ثم قـفـاه بإيتـاء الـزكاة فهـل دل ذلك عـلى أن في المال حـقا سـوى الزكاة ؟، قـلت : يحـتـمـل ذلك ، وعـن الشـعـبي : أن في المال حـقا سـوى الـزكاة ، وتـلا هـذه الآية ، ويحـتمـل أن يـكـون ذلك بـيان مـصارف الـزكاة ، أو يكـون حـثـا عـلى نـوافـل الصـدقات.
وقال تعالى:{والمـوفـون} عـطـف عـلى مـن آمـن وأخـرج {والصـابرين} مـنصـوبا عـلى الاخـتصاص والمـدح، وإطـهـارا لفـضـل الصـبر في الشـدائـد ومـواطـن الـقـتال عـلى سـائـر الأعـمال، وقـرئ:{والصـابـرون}، وقـرئ:{والمـوفـين}، و{الـصابـرون}، و{البأسـاء}، الفـقـر والشـدة،
و{الـضـراء }المـرض والـزمانـة: {صـدقـوا} كانوا صادقـين جـادين في الـدين.
وقال الحـرافي:الرقاب جـمع رقـبة وهـو ما ناله الـرق مـن بني آدم، فـالمـراد الـرقـاب المسـترقة التي يـرام فـكهـا بالكـتابة، وفـك الأسـرى مـنه وقـدم عـليهـم أولئك لأن حاجـتهـم لإقامـة البنية، وقـيـل نـكـتة إيـراد في هـو أن ما يعـطى لهـم: مـصـروف في تخـليص رقـابهـم فـلا يمـلكـونه كالمـصارف الأخـرى، والله أعـلم.

ناصر بن محمد الزيدي

.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله في الاسبوع القادم.