[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]
قد نكون عراقيًّا أكثر شعوب العالم استخدامًا لمصطلح البيئة الحاضنة، ولعل استنتاجي هذا يستند إلى قناعة من الواقع أصلًا، لكثرة عناوين المظالم والآلام التي لم نبرح الحديث عنها من أجل البحث عن وصفة تنقذ البلاد عما هو فيه من ويلات ومآسٍ وطوارئ .. فعندما نتحدث عن الخصومات المحتدمة بين الكتل السياسية والصراع الذي يحكم علاقاتها إلى حد (الحوار الدموي) والتخوين ونشر غسيل الاتهامات، لا يستقيم الحديث إلا إذا تم التطرق إلى البيئة الحاضنة وهي بيئة محكومة بادعاء المعلومية والحصصية والتنابز والمفاخرة على غير وجه حق، وفي هذا السياق يحضر مصطلح البيئة الحاضنة أيضًا خلال الحديث عن الإرهاب والميليشيات المسلحة والخارجين عن القانون والمتماهين مع ظواهر الفوضى.
وعندما يتم التطرق إلى الفساد لا يكتمل التشخيص إلا بالإشارة إلى بيئة حاضنة سياسية ومناطقية وطائفية وعشائرية واثنية تغطي عليه، بل وتموله وتجعل له أتباعًا ومريدين ومنظرين في تقليعات السرقة ومد اليد إلى المال العام، والإفلات من العقاب وتهريب الفاسدين حتى أن البيئة الحاضنة للفساد في العراق تجاوزت حدود التعريف الصادر عنه في معجم أكسفورد إذا اعتمدنا المقارنة بين ما يجري في العراق وما خلص إليه ذلك المعجم من تعريف.
وبالنسخة التقليدية في تشخيص ظاهرة تلوث الطبيعة العراقية منذ أمد طويل وإفلاسها، لا يصح المنطق إلا بإسناده إلى البيئة الحاضنة ضمن الأخطاء الجسيمة في التعامل مع النفايات والأنقاض وأساليب نشرها على مساحات واسعة، الأمر الذي حول بغداد حاضنة البساتين سابقًا إلى مدينة مسيجة بأطنان النفايات، وصارت مكبات تلك النفايات قرى صفيح مفقسات للجراثيم.
وللاختصار أقول هناك بيئات عراقية حاضنة للتلوث الثقافي والمخدرات والغش الصناعي والتصحر واستنكار القوانين ومبايعة الدجالين وتجار الشعوذة والسحر، وكأن هناك محاولة مدروسة ومنظمة لها أتباع في نفي الحقيقة التاريخية أن العراقيين هم أول من سن القوانين، وكأن كلكامش وحمورابي وآشور بانيبال والشاعر المتنبي وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من أعلام العراق لا وجود لهم.
واسترسالًا لهذه الظواهر، هل لنا أن نعبر حدود بعض الوقائع لنقول إن هناك بيئة حاضنة للجهل وادعاء المعرفة على قياس المثل اليوناني القديم (من يعرف يروي ومن لا يعرف يروي)، وإن في هذه البيئة معالم لعدم الحياء والخجل، أذكر أنني سألت موظفة في إحدى الدوائر الحكومية ما الذي يدفعها إلى الخجل فقالت لي دون تردد (أشعر بالخجل لحالي لأني لا أملك سيارة مثل أغلب زميلاتي في العمل)!! لقد صار الامتلاك عنوانًا للهيبة وعروض الوجاهة.
أعتقد أن الأمر هكذا، وإن كان بنسب متباينة، وللحقيقة إن المسؤولية في كثرة البيئات الحاضنة لكل ما يجري في العراق لم يكن وراءه سوى مجموعات لا تريد للعراقيين أن يلتقطوا أنفاسهم، بل إن هناك من العراقيين من يمعن في هذا التوجه ويجد له أتباعًا. ولكن من الشجاعة القول إن كل البيئات الحاضنة التي أشرنا إليها لم تستطع لحد الآن ولا مستقبلًا أن تصنع رأيًّا عامًّا لها بالرغم من التحريض اليومي وضجيج تجار التحليل السياسي أصحاب النية الذليلة الذين يروجون في هذه الفضائية أو تلك.
وأعتقد أيضا أن البيئة الحاضنة للصمود في مواجهة كل البيئات الحاضنة المذكورة هي بمستوى التحدي، وأن ما مر على العراق من ويلات أعطى دروسًا لكيفية المواجهة، وإذا كان المجهول يطرق أبواب البلاد فإن المستقبل لن يكون بهذا السوء.
يقول الشاعر الألماني هلدرين (حيث يوجد خطر هناك أيضًا ينمو ما ينقذ).
الأمل بالسلام الاجتماعي لم يغادر النفوس العراقية وثقوا باجتهاد المتنبي عندما يقول (مَنْ يزحم البحر يغرقُ).