يشير إلى أن المتخيل هو الجزء الأكثر جوهرية من الواقعي وليس هو الجزء المقابل للواقعي

الهوية العميقة للرواية هي السؤال الفلسفي.. والفلسفة هي الرئة الحقيقية لتنفس الرواية

أجرى اللقاء ـ وحيد تاجا :
يعتبر الأديب والمفكر المغربي د. أحمد سلام إدريسو أحد أبرز رواد الأدب العربي في المغرب، وقد أبدع في كتابة الشعر كما كتب في الرواية وفي النقد، وأسهم في تأسيس عدد من المراكز الثقافية، وهو عضو في عدة لجان تحكيم ضمن جوائز تهم الشعر والقصة والرواية والنقد. من أهم أعماله: المصطلح الفلسفي في النقد والبلاغة العربيين، ومعجم مصطلحات الفلسفة في النقد والبلاغة العربيين، وبين الوديان:مداخل إلى النسب الشعري للثقافة. روائيا: العائدة ـ طوق النورس ـ اقليما.وله في الشعر ديوان طيرٌ خماص، وباب الفراشات، وتاج الماء.

* بصراحة لا أعرف هل أتوجه إليك بصفتك ناقدا أم باحثا أم شاعرا أم روائيا .. وخاصة انك مبدع في كل ما تكتب ..ولهذا سوف يكون سؤالي عن معنى الكتابة الإبداعية بالنسبة إليك ؟
** هذا السؤال يعبر بنا إلى الهوية العميقة لفعل الكتابة في ذاته،،هنا لابد من استحضار الفلسفة السيميائية الكونية التي تقول ما معناه،أن الكلمات وحدها لا تمنح الدلالة للأبعاد والأشكال والعلاقات والأشياء، بل الكاتب المبدع هو الذي يدل ويمنحها الدلالة والمعنى.لذلك نجد فكرة السطح في كل ما ذكرتُ هي العدو التاريخي للفعل الإبداعي،،ذلك لأن الكلمات والأيقونات ( متشظية معزولة عن بعضها البعض،مغروسة في ما قبل تاريخها الدال الحقيقي ) تتحرك عادة في هذا السطح الميت،، ومن هنا أهمية الكتابة، بالمعنى الذي ذكرت،،الواقع أن ما يكشف بالمقابل عن أهمية فعل الكتابة هو واقع الناس العاديين ويومياتهم،هكذا فهم يضحكون ويحكون ويتألمون حتى،،ولكنهم يظلون مشدودين في الغالب إلى تلال ذلك السطح الوجودي الميت الذي لا يمنحهم معنى ما يحكونه وما يتألمون بسببه،،وبالتالي فالذي يأخذ بأيديهم ويعبر بهم نحو معنى ما يعيشونه ونحو حقيقة ما يشعرون به هو الكاتب،ومن هنا صعوبة فعل الكتابة،إذ الأجناس معابر والأنواع صيغ للكينونة وما تحيط به هي لا ما يحيط بها اصطلاحا، ومن هنا نقول ثمة فرق بين الكتابة كعنوان وبينها كفعل،،ليس كل من أخذ قلما وكتب يجسد بذلك الهوية الثقافية العميقة الكتابة حقا،كثيرون يظلون مشدودين في كتاباتهم ( أيا كان جنسها ونوعها ) إلى ذلك السطح الميت الذي لا يدل، قلة منهم تكتب وهي تتنفس هناك في ممالك العلاقات ومقامات التجربة التحتية للحياة،،والشعر والسرد وفعل التأمل الفلسفي والنقدي فيهما،على الخصوص،هو جزء عضوي بنيوي عميق من الانتماء إلى هوية الكتابة كفعل ومشروع صناعة للعلاقات والأشياء لا مجرد عادة أو حرفة نكرس بها المسكوكات في حياتنا اليومية، ومن هنا يكمن المفهوم الحق لفعل الكتابة، كجغرافية جمالية عميقة للحياة،وليس فقط في مجرد ادعاء الحكي أو اجتراح الوزن.

*نشرت كتابا بعنوان ( مأسسة المعنى الثقافي).. فما هو مفهومكم لمعنى الثقافة اليوم. وإلى أي مدى يمكن حقيقة مأسسة هذا المعنى..؟
**ينبع الثقافي من معنى ما نفعله، لذلك تكمن أطروحتي المركزية ضمن هذا الكتاب الصغير، في المنطلقات التالية؛ تنبع دلالة المعنى الثقافي من سؤال؛ ( لماذا أفعل؟)، و( ما الهدف من فعله؟).وبذلك يطرق المفهوم الثقافي الباب بقوة على سؤال الجدوى والوظيفة.وبالتالي يفتح المعابر نحو اللذة الروحية،ومتعة الانسجام العاطفي والعقلي فيما نفعل وما نفكر فيه وفي تحقيقه.ولعل هذا ينسجم مع تاريخ وجود المعنى في حياة الإنسان،إذ نجد في بعض التنظيرات السيكولوجية أن حاجة الإنسان إلى المعنى توجد فيه منذ ولادته إذا كان سؤال المعنى والمعنى الثقافي مركزيا إلى هذه الدرجة،فهل يمكن موضعته مكانا عَلِياًّ في نسيجنا المجتمعي؟.بعبارة أخرى؛هل بالإمكان مأسسته،عن طريق استنباته،ضمن مشروع مجتمعي تنويري،،في عمق البنيات والفضاءات المدنية الحساسة،وذات الأولوية؟.القصد هو التساؤل عن ممكنات التلقيح التكويني ( gènètique ) لأنسجة هذه البنيات والفضاءات المجتمعية المدنية،التي تنسج أقدار الشعوب بين الجغرافيات الروحية لتاريخ وراهن الثقافات الكونية،وأساليبها في النمو العاطفي والمنطقي؟ يتحرك الثقافي عبر ثالوث جوهري هو الواقعي والخيالي والرمزي، فقط ليجيب عن أسئلة بسيطة تشك حناجر الناس كل يوم،،في مقدمة هذه الأسئلة البسيطة نجد؛لماذا الثقافة في حياتنا العامة؟.ولماذا نغامر فلا نكتفي بالاتباع بدل الإبداع،وبالاستقالة بدل التفكير،وبالصمت بدل السؤال،وبالخبز بدل المعنى، للعيش في سلام،كما يقولون في الدارجة؟.لماذا أدرُس ( وأُدرّس ) الفنون والآداب ومهارات التعبير والتواصل والتلقي والتأويل والاختلاف والحجاج والنقد والإنصات في المؤسسات التعليمية بكل مستوياتها؟.هل يعقل أن تكون كافة هذه المهارات ( الإستراتيجية ) من الأمور التحسينية الزائدة في حياتنا اليومية؟.

* انطلاقا من تشديدك على تحديد المفاهيم والمصلحات ..كيف تفهم الحداثة. وهل ترى أن المثقف العربي استطاع أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلاً. ؟
** بعيدا عن الكثير مما قيل راهنا ( في أدبياتنا العامة ) عن مدارات الحداثة،،يمكن أن أختصر لكم فهمي المتواضع في كلمتين؛الحداثة اختلاف،،بمعنى أنها رهان على التفرد وقول اللكنة والشعور الخاص في كل شيء،،قول اللامتوقع حول الذات والعالم ووقعهما على بعضهما البعض،وإنجاز ما لا يتكرر في شبكة العلاقات النامية بينهما بغير نهاية،،حين يقول لنا المبدع وقع العالم على وعيه الخاص،وينجزه عبر مشروع فني جمالي فلسفي، ملموس، ولا يسعى إلى ترديد المسكوكات، فهو مبدع حداثي بامتياز حتى ولو كان متصوفا أو عالم دين أو عالم ذرة أو ساردا أو تشكيليا أو شاعرا أو عالم آثار،،وبمنطق أن الشيء بالشيء يُذكر، يشار هنا إلى أن الأمر اليوم أصبح ملتبسا بعض الشيء،على امتداد العالم وعالمنا العربي تخصيصا،عبر واجهتين متقابلتين،،وهنا بالذات،وفي تقديري الخاص(وهو على أية حال تقدير نسبي) أشير إلى أن التفكير العربي الراهن أصبح أسيرا لشَرَكَيْن مفهوميين ملتبسين يبدوان متقابليين، نتيجة التنظيرات والمفهومات الإيديولوجية والطائفية والبرجماتية الضيقة،وعلى هذا التفكير الثقافي العربي اليوم أن يجلس إلى الأرض وينخرط مجتمعيا في مشروع إعادة البناء المفهومي لهما،لا على ضوء القطيعة السريالية لا مع الراهن ولا مع التاريخ،نجد في هذا السياق مفهومين ثقافيين متقابلين في العادة؛ الأول؛مأزق الفهم الشكلاني للحداثة الثقافية؛ كمأزق نابع من المنطلق المدرسي الساذج حول مشروع الموقف من الذات والآخر،وهكذا أصبح عاديا في مشهدنا السياسي والثقافي والحزبي والتربوي والديداكتيكي،التنفس اليوم من هواء مفهوم معتل وناقص بصدده،ولعله هواء يتمثل منذ عقود في دلالة القطيعة التبسيطية مع التاريخ، في حين أن الحداثة انخراط في التاريخ والسيرورة، بشرط أن نمارس رحلة شاقة في فهمهما أولا،الفهم العميق هو أول الانخراط لا القطيعة،الثاني؛مأزق الفهم غير المقاصدي للإسلامية المعرفية؛ كمأزق نابع من منطلق خطابي دعوي غير مقاصدي،يحكمه الظرفي العابر،والشكلانية السياسية حول فهم المنابع الروحية وقراءتها،وتحويلها من ثم إلى مجرد متاريس جافة للهيمنة العاطفية والمادية،،لابد إذن،من تجديد الخطاب الذي يمارس قراءاته الجمالية والأسلوبية لهذه المنابع العظيمة،،ولابد من مشروع تنويري يخرج لنا المزيد من الفقهاء المقاصديين التنويريين الذين لا يسقطون في مأزق القطيعة البرجماتية أو العاطفية مع الراهن،تحت شعار العودة غير المفهومة وغير المحددة ثقافيا إلى الذات،،ما هي الذات في نهاية الأمر،،ما هو التراث؟،،من نحن؟،،هذه أسئلة لابد منها للمتنورين من علمائنا وفقهائنا المقاصديين،،فقط أن يحدث التواصل لا القطيعة،،

* ومع ذلك صنفت روايتك " العائدة" كـ رواية إسلامية ... ؟
** حين ينجز الكاتب عملا سرديا أو شعريا يصبح مستقلا عنه، ويتفاعل مع سياقات متقاطعة ومتضاربة مع بعضها البعض،ولعل هذا ما يمنحه حياته الخاصة،ولكن لهذه الرواية حكاية طويلة لا حاجة إلى إثارتها الآن، ولكن في باب تصنيفها رواية إسلامية لابد من الإشارة إلى إشكال القراءة الدعوية الإيديولوجية ( من كل الأطياف المتقابلة ) كواقع مشهدي تأويلي في واقعنا الثقافي العربي،مشهد تفسيري استباقي شكلاني ظاهري،ومع ذلك فهو مفتوح على المنغلق لا النامي،حيازة هذا النص الروائي على جائزة في التسعينات من القرن الماضي في سياق مؤسسي ديني إسلامي،إضافة إلى ما أشرتُ إليه منذ قليل ( أي التباس مفهوم الإسلامية ذاته) هو ما أعتقد أنه ألقى بظلاله على تلك القراءات التفسيرية الاستباقية، التي صنفت روايتي بكونها إسلامية،،في المقابل كان دائما هناك طابور الأقلام التي تمتهن مجرد حرفة المحاصرة الإيديولوجية السالبة والموجبة معا،وهي لا تعي أبسط الدروس التاريخية الماثلة في أنه يستحيل محاصرة المبدع،ضمن قراءة جاهزة ومسبقة، سواء كانت دينية أو لائكية،،طبعا هذا حين يكون المبدع ممتلكا لمشروع ثقافي لا مجرد حرفة،،هنا تعلو تجربته ومشروعه فوق التصنيف غير الثقافي،، الإشكال في تقديري، ليس في التصنيف الإسلاموي ذاته، أو فيما يقابله من تسميات،الإشكال (إذا استحضرنا السياق الثقافي العربي ) في محتواهما غير المتماسك،،فضلا عن الزوايا التي منها يطل الفاعل غير الثقافي عليهما، وفي رأيي أنه آن الأوان ( إن لم يكن قد تأخر قليلا ) كي نبحث لنا عن مسمّيات ثقافية غير متعالية، بمحتويات متجددة جريئة ومفتوحة البصائر،،إذ لا شعار الإسلاموية ولا شعار الحداثوية سوف يسعفاننا على تجاوز ما أسماه المفكر المغربي عبد الله العروي (بالنهضة المُخطَأَة)،الرهان هو أن نتمثل المنظور النسبي للمفاهيم،بما هي قراءات إنسانية نامية غير جامدة،وعلى المحتوى الثقافي النسقي الأنطولوجي للعلاقات والأشياء،وأن ننخرط في مشاريع إبداعية تسعفنا على تمثل كل ذلك لنعكسهما تدريجيا في إبداعاتنا وتفكيرنا وأنساقنا،هذه بوابة النهضة،،وإن كان مصطلح النهضة ذاته من ضمن تلك المسكوكات التي ينبغي إعادة تأملها وتفسيرها وترتيب أسئلتها التاريخية والراهنة من جديد.
وتأسيسا على كل ما ذكرتُ لك،لا يبقى المكان مناسبا ( حاليا على الأقل ) للتساؤل حول إمكانية الجدل حول منظور أدبي إسلامي معين نطل به ومن خلاله على العالم الثقافي والمعرفي الكوني،،لابد من ردم الهوة أولا بين مفهومنا للذات ومفهومنا لهذا العالم،لابد أن نتجاوز قراءاتنا النمطية حول منابعنا الثقافية الأولى،لابد أن نفتح نوافذنا كي ننصت إلى الكون وثقافاته ورؤاه،وما يقوله في هذا المنحى،ومن تواضع لله رفعه.

* يذهب دعاة الأدب الإسلامي إلى وجود مشروع للتنظير لنقد أدبي عربي ..ما رأيك؟
** حتى ولو سلّمنا مؤقتا بوجود موضوعي لهذا المدار الأدبي ( وهو في تقديري الخاص يحتاج إلى الكثير من الماء الثقافي والفلسفي ) فيمكن أن أبسط لكم ما أعتقده فيما يلي،،عربيا (المشروع الأدبي الإسلامي (الشعري والسردي والتشكيلي والموسيقي) بالمعنى الفلسفي العميق لمفهوم المشروع)غير موجود إلا كرؤى فردية قليلة جدا،لا تتناسب طردا مع طبقات المنجز الجمالي والإبداعي التاريخي الإسلامي العظيم متعدد اللغات،الذي ينتظر يقظتنا لأجل التفاعل معه إيجابيا،،وهذه مبادرات على أية حال محتاجة إلى نقاش صريح من الداخل،،لكن بإمكاننا التفكير اليوم حول حمولات ثقافية ممكنة في فن إسلامي كوني لا عرقي،تنزاح عن القراءات الدعوية الاستباقية غير المقاصدية للغة والألسن والأدب والفلسفات،حمولات مشحونة بالتنوع، (يشارك فيها علماء متنورون وسوسيولوجيون ثقافيون وعلماء سيمياء وعلماء نفس وفلاسفة لغات وغيرهم كثير)، وبالمقابل تغترف من تاريخ الشعوب الإسلامية ومن تمثلات الشعوب غير الإسلامية حول فنونها،من قبل هذا كله لابد أولا أن نمتلك الشجاعة لإعادة تأمل مفهوم الإسلامية ذاته،ووضع الحمولة التي تراكمت منذ عقود حوله عربيا على الخصوص،أقول لابد من وضعها تحت المجهر المقاصدي المعرفي لا الإيديولوجي الشكلاني الظاهري،وهذا ما لعله يبقينا تحت المجهر الثقافي والعلمي الجاد والرصين غير المتسرع،لنتواضع قليلا بعد هذا،ولنذهب بهذه الروح الجادة والعالمة،للبحث عن محتويات منسية ضمن لغات إنسانية غير متوقعة،وضمن ثقافات إنسانية في الغرب وفي الشرق،لغات ومذاقات وسرديات وتشكيلات وأصوات وقراءات كونية،إذا امتلكنا مثل هذه الشجاعة،،يمكن الحديث فيما بعد عن مصطلح بديل،أما الآن،فأعتقد أن الأمر متعذر موضوعيا،النظرية تأتي من التراكم العمودي والأفقي،،وتأتي من استيعاب وعيش هذا التراكم،على ضوء التناص مع المجهودات الكونية لا على مبدأ القطيعة معها،،النظرية تبدأ حيث يتأسس الجيل بعد الجيل جماليا وإبداعيا أولا،،فالذين يقيمون النظريات أولا هم المبدعون،ثم يأتي الفلاسفة المبدعون فيعمقون من مجرى النهر النقدي والمعرفي حول الظاهرة،،ومن هنا تولد النظرية،بعد ذلك تبقى زوايا النظر تصب في التنوع ولا تحنق الهويات.

* ما حقيقة القول إن هناك " انحسارا" على مستوى النقد في المغرب لصالح تقدم السرد والرواية . ما رأيك..؟
** أعتقد أن هذا غير صحيح تماما،يحتاج الأمر إلى بعض التدقيق،،ربما المقصود هو بروز هذا المد الصاعد في المنجز السردي المغربي،على الخصوص،كما تعرف فالنقد المغربي له حضوره في الأوساط العلمية والأكاديمية العربية،،وإن كان لابد من قول ملاحظة،فهي ما قد يكون من تنامي النقد الصحفي على حساب النقد المعرفي والفلسفي الأكاديمي المتمرس،،ولكن هذا رأي نسبي يحتاج إلى تفاصيل.

* كيف نفسر ذهاب بعض النقاد والفلاسفة والشعراء المغاربة إلى حقل الرواية، مثل عبد الله العروي وبنسالم حميش (الفلسفة)، محمد عز الدين التازي وحمد المديني ( النقد ) .. محمد الأشعري وحسن نجمي ( الشعر ) ..وما انعكاس هذا على الرواية المغربية برأيك..؟
** في حالة فلاسفة كبار مثل عبد الله العروي وبنسالم حميش فأحسب أن هذا الذهاب في اتجاه السرد أمر طبيعي بل مطلوب،إذ في اعتقادي أن الهوية العميقة للرواية هي السؤال الفلسفي،وأن الفلسفة هي الرئة الحقيقية لتنفس الرواية،،يبقى أن ما يؤكد على سلطان السرد هو هذا الذهاب الجماعي إليه،،ثم لا ننسى بأن السرد والشعر لهما نبع متوحد،هناك من جهة الهوية السردية العميقة للكلام العربي،وهناك من جهة ثانية النسب الشعري العميق للثقافة العربية.

* شكل التجريب سمة أساسية في رواية أقليما ..؟
**ربما الدلالة السطحية للفظ التجريب ستشوّش على ما اعتقده وأعيشه سرديا وحتى شعريا،أنا لا أجرب بالمعنى المتداول للفظ التجريب،أنا أنطلق من وعي متجذر في كينونتي بأن الكتابة بشكل عام لا تكون كتابة سوى بهوية الاحتمال الكامنة فيها،الكتابة ضد المسكوك،والكتابة ضد المسبق،،وكل نظر أو فهم أو سلوك مشحون بالمسبقات والمسكوكات يقتل الكتابة في تقديري،حتما، ومن هنا فأنت سألت عن هوية الاحتمال في سياق الرواية تخصيصا،كيف بمقدور الرواية أن تولد في الخط المستقيم؟،الحياة نفسها ليست خطا مستقيما،اللغة ذاتها ليست خطا مستقيما،الثقافة ذاتها ليست صوتا واحدا،البوليفوني هو هوية التاريخ والواقع معا،فكيف تكون الرواية بلا مفاجآة واحتمالات ومسارات غير متوقعة،هذا كله هو السرد من زاوية فهمي،،وأقليما ذهبت في هذا الاتجاه،ربما ما قد يحدد لون عينيها هو اللون الأسطوري للحكي،حاولت أن أقذف بالتاريخ في بوليفونية الأصوات الراوية له،حاولت أن أزج بالتاريخي في اللامتوقع،وأن ألجم غرور المتخيل بسراج المعرفي والتاريخي.

* هناك تأثر واضح بالصوفية في كتاباتك ..وكنا لاحظنا توجه معظم الشعراء العرب إلى الشعر الصوفي،..ولكن الملفت الان هو توجه الروائيين، لإحياء هذا التراث واستخدامه في السرد...؟
** أخشى أنني أفهم المذاق الصوفي في الرواية،بل و(التصوف) الثقافي عموما فهما خاصا بي،،ولكن ستبقى بعض الجسور المشتركة بين مفهومات صوفية متعددة،( في المنجز الشعر كما في بعض المنجز السردي الراهن )نابعة عن تعدد القراءات للمعنى الروحي ومفهوم الكينونة ومفهوم العالم ومفهوم الذات وعلاقة العشق والألم والحب الثاوي في نسيج الوعي بالعالم،في رأيي أن الإنسان كائن صوفي بطبعه،،لذلك نجد المد الروحي متجذرا في كل اللغات والثقافات،،الاغتراف من الروح ومن أسئلتها اللامنتهية هو ما يمنح الإنسان دلالة وجوده، وإلا فهو الآلة الصماء التي تأكل نفسها في الصباح والمساء،لكن كما قد أشرت لك،،صوفية الكتابة تنبع من فرادة التذوق لا سطحية الاتباع،لا شيخ للصوفي غير أسئلته،،ولا قدح يشرب منه يوميا غير أشواقه الذاتية وفهمه الخاص للكون والذات وما بينهما،الرواية على الخصوص ذهاب ضروري ومبدأي نحو أسئلة الروح ومعاناتها لا نحو سطح اليومي الفج،،لكل شيء جذره الباطني الأنطولوجي المدهش،،هناك داخل هذا الجذر الباطني تتحرك الرواية،،وهناك ينبغي أن يتجه الشعر أيضا.

* الملفت في رواياتك، وخاصة أقليما، هو ذلك التماهي بين الواقع والمتخيل، إلى الدرجة التي يصعب فيها التمييز بين الحدود الفاصلة بينهما.. ؟
** سنحتاج دوما إلى إعادة تشييد لا ينتهي لفهمنا حول الواقع والمتخيل،أنا من هؤلاء الناس الذين يعتقدون بأن المتخيل هو الجزء الأكثر جوهرية من الواقعي وليس هو الجزء المقابل للواقعي،بل الأبعد من هذا هو أن المتخيل هو الجزء الأكثر خلودا فيما يظل الملموس مجرد أشباح تتداعى،الأبعد من هذا هو أن الذات وما هو ذاتي لا يمثل الجزء المكين من الواقعي والمحيطي فحسب،بل وفي الكتابة السردية على الخصوص تصبح الذات المحكية والحاكية في نسيج الرواية هي الواقع والمحيط وما دونها مجرد رجع الصدى.

* يرى احد النقاد ان رواية ( طوق النورس) ترصد الواقع وتتجاوزه إلى نقد المنهج، وفي الوقت نفسه تقدم البديل المتمثل في ضرورة الوعي بالتأسيس من أجل تأسيس الوعي. ماقولك بهذه القراءة..؟
** تلك كانت قراءة مهمة لولا أنها سارت في اتجاه فهم إيديولوجي تبسيطي لتجليات مفهوم التأسيس ضمن النسيج السردي لروايتي (طوق النورس)،والأجدى أن أطروحة التأسيس تقرأ على ضوء فهم فلسفي ثقافي لا فهم ظاهري له،وهنا أشير إلى أن كل أعمالي الروائية منذ التسعينات كانت تهجس بضرورة الوعي بالتأسيس من أجل تأسيس الوعي،ولكن يا ليت من قرأني يفهمني من منظور أعمق .

* تذهب في ( طوق النورس ) الى جعل حسام بطل الرواية رمزا لتحولات عامة طرأت على أمة بكاملها.. بمعنى انه ليس سوى جزء من تلك الأمة التي وجدت نفسها يتيمة في زمن التحولات الكبرى...؟
** دائما سيظل الأبطال الروائيون أيقونات تهجس بالسياق الجماعي للثقافات والأمم،،وروايتي (طوق النورس) هي الجزء الثاني لروايتي (العائدة) التي قرئت،في محطات عديدة،قراءات فقهية غير مقاصدية حتى،ناهيك عن القراءة النقدية الفلسفية،،هذه بالأحرى هي جزء ثاني عمودي لا أفقي،،وقد كان البطل فيها هو اللغة ذاتها،الأزمة التي حاولت روايتي (طوق النورس ) الإطلالة عليها هو تلك التحولات اللسانية والتذوقية العميقة للقيم والحياة السبعينية،التي طرأت على الإنسان المغربي والعربي في مرحلة دقيقة كهذه،انطلاقا من أطروحة سردية سيميائية ألسنية،،ذلك أني أعتقد أن الوعي السياسي والأخلاقي والقيمي والاجتماعي والديني يبدأ حتما وضرورة من هنا،،من الأساس السيميائي الألسني الرمزي للأصوات واللغات والشرائح والطبقات والأبطال والحالات والانعطافات وغيره.

*سؤال أخير .. بصفتك ناقدا وشاعرا وروائيا. هل يمكن لك ان تكون ناقدا لنصك الإبداعي رواية او شعرا. ؟
** استطعت إلى حدود الآن، أن أكون،فقط، أول قارئ صارم ،غير مسالم، وبنفس الروح، قارئ متمتع عاشق أيضا لما يكتبه سلام أحمد إدريسو.