إعداد ـ أحمد بن سعيد الجرداني:

.. ونحن نتفيأ ظلال شهر رمضان الفضيل حري بنا نحن المسلمون أن نستذكر بعض ما قاله اهل العلم من مواعظ وخطب ومحاضرات ودروس ففي هذا اليوم ننشر هذه الكلمات التي قالها سماحة العلامة احمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة وهي عبارة عن خطبة القاها سماحتة في اعوام مضت ، فمع المادة ..

يقول سماحة الشيخ بعد الافتتاحية بالحمد لله والصلاة على رسوله: إن هذا الشهرُ تتضاعفُ فيه الأجورُ وتُرفَعُ فيه الدرجاتُ وتٌمحى فيه السيئاتُ ، فهو حلبةُ سباقٍ للمتسابقين في عبادةِ اللهِ سبحانه وتعالى الذين يحظَون بهذه الأجورِ كلِّها ، فجديرٌ بالعاقلِ أن ينتهزَ فيه الفرصةَ لأداءِ الطاعاتِ، والتقرّبِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى بصنوفِ القُرُباتِ ، وقلْبِ مجرى حياتِه من المعصيةِ إلى الطاعةِ ، ومن الغيِّ إلى الرُّشْدِ ، ومن الضلالةِ إلى الهدى ، وقد منَّ اللهُ سبحانه وتعالى على عبادِه في هذا الشهرِ العظيمِ بمنّةٍ كبيرةٍ جسميةٍ، وهي إنزالُ القرآنِ على قلبِ محمدٍ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ ، ذلكم الحدَثُ التأريخيُّ الكبيرُ الذي قلَبَ مجرى الحياةِ ، فعادت الإنسانيةُ إلى رشدِها بعد ما تسكّعتْ في غيِّها أحقاباً وقروناً ، وقد امتنَّ اللهُ سبحانه وتعالى على عبادِه بهذه النعمةِ العظيمةِ في قولِه:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ .. ) (البقرة ـ 185)، وقد ربطَ تعالى بين هذه المنّةِ وبين فرْضِ صومِ هذا الشهرِ الكريمِ حيثُ قالَ:( .. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه) (البقرة ـ 185) ، وفي هذا ما يُشعِرُ بأنّ هدايةَ القرآنِ إنما تترسّخُ بأداءِ هذه العبادةِ ذلك لأنَّ للقرآنِ نورانيةً ، وللصيامِ شفافيةً ، فإذا التقت نورانيةُ القرآنِ مع شفافيةِ الصومِ في القلوبِ اهتدت القلوبُ إلى بارئِها سبحانه وتعالى ، فتلقّتْ أوامرَه بالإذعانِ والطاعةِ، واستسلمتْ له منتهى الاستسلامِ ، وانقادت لحكمِه ، ووقفَتْ عند حدودِه.
والصيامُ عبادةٌ مقدّسةٌ في كلِّ الشرائعِ السابقةِ ، ولذلك ربطَ اللهُ سبحانه وتعالى بين فرضِه الصيامَ على هذه الأمةِ ، وبين إخبارِهم بأنَّه فرضٌ على مَن قبلَهم في قولِه عزَّ مِن قائلٍ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة ـ 183)، وبيّنَ لهم الغايةَ مِن هذه العبادةِ المقدسةِ ، وهي تأثيرُها على نفوسِ الصائمين بغرْسِ روحِ التقوى في قلوبِهم ، والتقوى بها قيامُ عوجِ هذه الدنيا فإنّ الإنسانَ إذا لم يكنْ متقياً لربِّه سبحانه وتعالى لم يُراعِ للهِ تعالى حقّاً، ولم يُراعِ لمجتمعِه إلّاً ولا ذمّةً، وإنما تقوى اللهِ سبحانه وتعالى صلةٌ بين العبدِ وربِّه، وهي أيضاً رِباطٌ بين الفردِ ومجتمعِه ، فالعبدُ الذي يتقي اللهَ سبحانه وتعالى يكونُ عضواً بنّاءً في مجتمعِه، وتأثيرُ هذه العبادةِ المقدسةِ على نفوسِ الصائمين بغرْسِ روحِ التقوى فيها إنما يتمُّ ذلك إذا ما حافظَ الإنسانُ على هذه الشعيرةِ المقدسةِ على نحوِ ما شرعَ اللهُ سبحانه وتعالى في كتابِه، فإنَّ هذه العبادةَ إنما شُرِعتْ لضبطِ النفسِ وتقييدِ الجوارحِ عن معاصي اللهِ الظاهرةِ والباطنةِ، ففيها تقويةٌ للجانبِ الروحيِّ على جانبِ الجسمِ، فللجسمِ مطالبُ ، وللروحِ مطالبُ، وإذا طغتْ مطالبُ الجسمِ على مطالبِ الرُّوحِ أدى ذلك إلى الهلاكِ والعياذُ باللهِ ؛ بحيثُ يكونُ الإنسانُ أسيراً لشهواتِه ، منقاداً لنزعاتِه ونزغاتِه، أما إذا تمكَّن الجانبُ الروحيُّ في الإنسانِ، وسيطرَ على الجانبِ الجسميِّ ؛ فإنّ ذلك يؤدي إلى التوافقِ، ويؤدي إلى التوائمِ ما بين مطالبِ الروحِ ومطالبِ الجسمِ .
وبالصيامِ يتمكّنُ الإنسانُ من السيطرةِ على شهواتِه ، فإنّه إنْ أرسلَ لنفسِه العنانَ في شهواتِها استرسلتْ إلى غيرِ حدود ، أما إذا ضبطَها وقيّدَها بهذه القيودِ الشرعيّةِ كانَ في ذلك وِفاقٌ لهذه المطالبِ كما ذكرتُ ، وبجانبِ هذا فإنَّ الصومَ المشروعَ ليسَ هو مجرّدَ كفِّ النفسِ عن هذه المفطِّراتِ المشهورة ، وهي الأكلُ والشربُ ومواقعةُ النسا ، بل هو بجانبِ ذلك أيضاً ضبْطٌ للنفس ، وقيدٌ لها عن كلِّ ما يُمنعُ ويُحظرُ من مكروهاتِ الأقوالِ والأفعا ، فالنبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يقولُ:(منْ لم يدعْ قولَ الزورِ والعملَ به فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه)، وهذا الكلامُ خارجٌ مخرجَ التهديدِ والوعيدِ لأولئك الذين ليس لهم نصيبٌ من صيامِهم إلا الجوعَ والظمأَ فحسب، فمَن صامَ عن الأكلِ والشربِ فحسب، وهو بجانبِ ذلك يُرسِلُ طرَفَه في محجوراتِ اللهِ سبحانه وتعالى ليسَ له من صيامِه إلا الجوعُ والظمأُ ، وكذلك الذي يقضي سحابةَ نهارِه ولسانُه كالسيفِ الذي يمزِّقُ أعراضَ الناسِ تمزيقاً بدونِ مبالاةٍ بحرُماتِ اللهِ سبحانه وتعالى التي فرضَها في وجوبِ المحافظةِ على هذه الأعراضِ ، فإنّ ذلك أيضاً ليس له مِن صيامِه نصيبٌ إلا الظمأَ والجوعَ فحسب، وكذلك الذي يقضي سحابةَ نهارِه وهو يعامِلُ الناسَ بما لم يشرعِ اللهُ سبحانه وتعالى من محرماتِ المعاملاتِ كالربا ونحوِه ؛ ليس له نصيبٌ من صيامِه إلا الجوعَ والظمأ ، وهكذا كلُّ الذين يأتون محارمَ اللهِ تعالى وينتهِكُونها ليس لهم نصيبٌ من صيامِهم إلا الجوعَ والظمأ ، فالنبيُّ (صلى الله عليه وسلم ) يقولُ:(لا إيمانَ لمَن لا صلاةَ له ، ولا صلاةَ لمنْ لا وضوءَ له ، ولا صومَ إلا بالكفِّ عن محارمِ اللهِ).
والصيامُ يعلِّمُ عبادَ اللهِ سبحانه وتعالى النِّظامَ ؛ بحيثُ يشترِكون جميعاً في الإفطارِ وفي الإمساكِ في وقتٍ واحد، لا فرقَ في ذلك بين غنيٍّ وفقيرٍّ ، ولا بين قويٍّ وضعيفٍ ، ولا بين حاكمٍ ومحكومٍ ، ولا بين إنسانٍ وآخرَ ، بل الكلُّ يشترِكون في تناولِ وجبةِ الإفطارِ في وقتٍ واحدٍ ، كما يمسكون عن الطعامِ جميعاً في وقتٍ واحدٍ ، وهو يذكّرُ الأغنياءَ بحاجاتِ الفقراءِ والبؤساءِ الذين تعوزُ أحدَهم اللقمةُ التي يسدُّ بها حاجتَه من الطعامِ ، فجديرٌ بالإنسانِ الذي يصومُ نهارَه أنْ يرقَّ للفقراءِ والمساكينِ الذين أدقعَهم الفقرُ ، والذين يُعانون من البأساءِ و اللأواءِ في هذه الحياةِ ، فيشرِكُهم فيما أفاءَ اللهُ تعالى عليه مِن فضلٍ ، وفيما وهبَه إيّاه من رزْق.
وبجانبِ هذه المنافعِ الروحيةِ فإنّ هنالك منافعُ جسميةٌ أيضاً في الصيامِ ، فإنّ الصيامَ صحةٌ كما رويَ في الحديثِ عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) :(صومُوا تصحّوا)، فالجسمُ تبقى فيه ترسّباتٌ من الأطعمةِ ؛ خصوصاً الأطعمةَ الدهنيةَ ، ولكنّ الصومَ يقضي على هذه الترسّبات.
ويوضح سماحة الشيخ في خطبته بقوله: إذا كان شهرُ الصيامِ المبارك موسماً للعباداتِ ؛ فإنه لجديرٌ بالعبدِ المسلمِ أن يغتنِمَ فرصتَه في هذا الموسمِ المُبَاركِ ، فلا يفوِّتُ فيه فرصةً يمكنُه أن يتحيّنَها في أداءِ أيِّ شئ من العباداتِ التي هي محبّبةٌ إلى اللهِ سبحانه وتعالى سواءً كانت مِن المفروضاتِ أو كانت من المندوبات ، فعبادُ اللهِ الصالحون يحاسِبون أنفسَهم في هذا الشهرِ الفضيلِ ويراقِبونها، وينتهِزون فرصةَ هذا الشهرِ الِكريم بالدقائقِ والثواني من غيرِ أن يُفرِّطوا في لحظةٍ من اللحظاتِ ، فهم لا يقضُون سحابةَ نهارِهم في المزاحِ والفكاهاتِ، أو يقضُون سهرَهم في السهراتِ التي تمتلئُ بالقهقهاتِ والضحكات ، والتي لا تخلو غالباً من سقَطاتِ القولِ وعثَراتِ اللسانِ، ولكنّهم يصونون أنفسَهم ليلَهم ونهارَهم في هذا الشهرِ الكريمِ عن كلِّ قولٍ إلا ما كانَ قربةً إلى اللهِ سبحانه وتعالى من ذكْرِ اللهِ وتلاوةِ كتابِه ، وتدارُسِ العلمِ النافعِ ، والتآمرِ بالمعروفِ والتناهي عن المنكرِ ، كيفَ والأجورُ تضاعَفُ في هذا الشهرِ ، فمَن أدّى فيه نافلةً كانَ كمَن أدّى في غيرِه فريضةً ، ومن أدّى فيه فريضةً كان كمَن أدّى في غيرِه سبعين فريضةً ، وقد جاءَ في الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنّه قالَ لأمِّ سنان الأنصاريةِ : (ما منعَكِ أن تحجِّي معنا هذا العامَ ، فقالت له : يا رسولَ اللهِ ، إنّا لا نملكُ إلا ناطحين، أما أحدُهما فركبَ عليه أبو فلانٍ وولدُه تعني زوجَها وولدَها، وأما الثاني فإنّا نسقي به زروعَنا، فقال لها النبيُّ (صلى الله عليه وسلم):(إذا كان رمضانُ فاعتمِري فإنّ عمرةً في رمضانَ تعدلُ حجةً معي)، مَن الذي يزهدُ في هذا الخيرِ العظيمِ ؟! ومَن الذي لا يريدُ أن يغتنِمَ هذه الفرصةَ المباركةَ ؟! فيتقرّبَ إلى اللهِ تعالى بصنوفِ العباداتِ ، وأنواعِ القُرُباتِ ؛ من عمرةٍ وصلاةٍ ، وزكاةٍ وصدقةٍ ، وبِرٍّ بالوالدينِ وصلةٍ بالأرحامِ ، وأمرٍ بالمعروفِ ونهيٍ عن المنكرِ ، وتلاوةٍ لكتابِ اللهِ تعالى في هذا الوقتِ الذي تُضاعَف فيه الأجورُ ، وتُرفعُ فيه الدرجاتُ ، وتُمحى فيه السيئاتُ لمن تابَ وآمنَ وعملَ صالحاً ثم اهتدى ، وقد جَاء في وصفِ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) أنّه كانَ أسرعَ الناسِ إلى الخير ، فكانَ أسرعَ إلى الخيرِ من الريحِ المرسلةِ، وكانَ أكثرَ ما يكونُ إسراعاً إلى الخيرِ أي جوداً بما عندَه من الرزقِ في شهرِ رمضانَ عندما يلقى جبريلَ يعرضُ عليه القرآنَ الكريمَ، كانَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يعرضُ القرآنَ الكريمَ على جبريلَ في هذا الشهرِ الذي ابتدأَ نزولُ القرآنِ الكريمِ فيه ، وكانَ (صلى الله عليه وسلم) يعرضُ ما أُنزِلَ عليه في كلِّ شهرِ رمضانَ من كلِّ عامٍ ، فلمّا كانَ العامُ الذي قبُِضَ فيه الرسولُ(صلى الله عليه وسلم)عَرضَ فيه القرآنَ الكريمَ على جبريلَ مرّتينِ ، فجديرٌ بالإنسانِ أن يغتنِمَ هذه الفرصةَ ويتأسّى برسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) في الإكثارِ من تلاوةِ كتابِ اللهِ تعالى في هذا الشهرِ الفضيل، مع تدبّرِ معانيه ، والوقوفِ عند أوامرِه ونواهيه ، وعقْدِ العزمِ على العملِ بكلِّ ما فيه ، وبجانبِ ذلك ينبغي للإنسانِ أيضاً أن يقتديَ بالرسولِ (صلى الله عليه وسلم) ، فيضاعِفَ من خيرِه للناسِ في هذا الشهرِ الفضيلِ .
وفي ختام خطبته دعا المفتي العام للسلطنة المسلمين إلى تقوى الله , والتزوّد فإنّ خيرَ الزادِ التقوى، فطُوبى لامرئٍ تزوّدَ من يومِه لغدِه، ومن حياتِه لمماتِه ، ومن صحتِه لسقمِه، ومن شبابِه لهرمِه، والفرَصُ تفوت ، فالناسُ متسابقون في حلبةِ هذه الحياةِ ، فربَّ غادٍ غيرُ رائحٍ ، وربَّ رائحٍ غيرُ غاد ، وربَّ إنسانٍ منَّ اللهُ عليه بمنّتِه بلقاءِ شهرِ رمضانَ هذا العامَ ، ولم يلقَه بعد عامِه هذا أبداً.