[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وجدتني في حلب متجها الى عروس المدن الرقة .. كان الطبيب الدكتور والكاتب عبد السلام العجيلي ينتظرني من اجل إعداد حلقة معه من حلقات برنامج تلفزيوني يدعى " دفاتر الايام".
يا لها من مدينة مدهشة يزنرها نهر الفرات بطوله وعرضه، كان تاريخها يصدح في ذاكرتي، وخصوصا بستانها الشهير الذي سمي ببستان هشام بن عبدالملك، الذي لم يكن يضاهيه مكان في العالم آنذاك بمحتوياته من الفواكه المنوعة والخضار ايضا، حتى ذاع صيته في انحاء المعمورة، وبات مقصدا من كل انحاء العالم للتمتع بجماله وشراء منتوجاته والتعلم على كيفية زراعتها وهو من اهتم بالزراعة، ولذلك لاعجب ان نجد بيت شعر في احدى قصائد الشاعر سعيد عقل الشامية يقول فيها " أمويون فان ضقت بهم / ألحقوا الدنيا ببستان هشام".
سحرتني الرقة، يكفي انها كانت مصيف الامويين كي نعرف أي خيار هي واي موقع واي تاريخ. اما الدكتور عبد السلام الذي هو طبيب المدينة الخاص، فليس سوى مناضل قديم يعتز به حين جاء مسافة مئات الكيلومترات يوم نكبة فلسطين كي يقاتل مع جيش الانقاذ فخسر احدى عينيه.
لنتصور جمال الصورة التي تنطبع في ذاكرتي عن تلك المدينة الجميلة، وما هو عكسها اليوم من دمار لم ار فيه سوى انه كامل وليس شبه كامل .. لم يترك منزلا أو شارعا أو مبنى الا وفعلت فيه طائرات (التحالف) فعلها وليس فقط قذائف المقاتلين .. كأنما هنالك من اراد الانتقام منها ومن اهلها ومن تاريخها .. حولتها صواريخ الطائرات وخصوصا الاميركية منها لتتجاوز مشاهد ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية. كيف يستطيع من حلم ذات يوم ان يمضي عمره في هذه المدينة الفائقة الجمال، واذ هي على هذه الشاكلة، لا اناس فيها ولا بشر، وكيف يمكن السكن فيها وهي خراب عام، اطلال مدينة يقال فيها ذلك الشطر من البيت الشعري " قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل ,, " .
الصدمة الثانية كانت رقصة تنظيم "قسد" في ساحتها المتبقية .. على ماذا يرقص هؤلاء الذين خسروا المدينة فإذا بهم وهم مشروع حماية لها، كما امر بذلك الاميركي الضامن لها، ينسون حقيقة انها في قلب الجيش العربي السوري، وبالتالي لا يمكن التخلي عن شبر منها بأي طريقة كانت، واعتقد ان فشل المشروع الانفصالي في كردستان لابد ان يغير نظرة اكراد سورية اليها لصالح اعادة النظر بضمها الى مايسمى بالحكم الذاتي الكردي.
في تقديري، ان التدمير الممنهج لهذه المدينة التاريخ، لا بد ان له اسبابه في العرف الأميركي، وما لم يقله الأميركي ومن دخل إليها فاتحا من الاكراد، فإن الفعل الآثم الذي ارتكب بحقها، ليس فقط انتقاما، وانما دلالة على بعد سياسي يراد له ان يسود مستقبلها.
تحتاج الرقة لمشروع عاجل كما يقال من رصد اموال لإعادة تعميرها، فهل من يفعل ذلك سيكون بالمجان، ولهذه ايضا معانيها في علم المصالح، اذ لا شيء في هذا العالم له مساعداته بلا سبب جوهري يقف وراءه .
لا اريد ان اسقط من ذاكرتي صورة مدينة متوهجة، علاقتها مع الفرات سمح لها بان تدخل التاريخ طويلا وان تسمو عبرها، بل تدلل، ولا يختفي هذا الأمر مهما طرأ عليها من واقع مر.