مدخل
لكل تجمع بشري سماته الخاصة التي طبعته وأسبغت عددا من الصفات على تفاصيله، مما جعل من ينتمون إلى ذلك التجمع يحملون مجموعة من السمات المشتركة التي تميزهم عن تجمعات بشرية أخرى، جارة او قريبة أو بعيدة؛ ووفقا لها التصور المبدئي يمكن اعتبار أن هذا التجمع شكّل بتلك الخصوصية والكاريزما المتصلة بالمكان مجتمعا منظما ذا خارطة ذهنية وسلوكية ومعرفية، مستمدا شغف استمراره من خلال استقراره الممتد والمتجذر بفعل الاستقرار الذي هو عليه، وانعكاس هذا الاستقرار على المنتمين إليه وجودا وتكاثرا وأسلوب حياة.
بالاستناد إلى فكرة كون المكان شكّل من فيه وما فيه سمة المجتمع بمعناه المستقر، فقد أصبح محط أنظار المنتمين إليه والوافدين إليه، وهذا يعود إلى جغرافيا المكان الذي يمثله ذلك المجتمع، إذ لم تعد التكوينات العددية الصغيرة والمتناثرة هي ما تشكل المجتمع، في ظل وجود تماس حضاري، تأثيرا أوتأثرا، تأسيسا أو تبعية، وبناء على ذلك تظهر الكاريزما والشخصية المحددة للمكان بكل ما فيه، مما يجعله أنموذجا للتأمل والدراسة والفحص والتحليل، لفهم شبكة علاقاته المختلفة، مما يجعلنا نؤمن بأهمية وضرورة وجود نقد ثقافي ، يتتبع ذلك التشكيل الجوهري الممتد في التاريخ المكوّن، والذي سيضيء – عبر أسئلة ضمنية – خصائص المكان، وتفاعلاته الداخلية والخارجية، تمهيدا لكشفه أو إعادة اكتشافه.

ملامح
إذا قلنا بضرورة تأطير رؤية ما لفهم المكان، فإن ملامح الثقافة التي تحملها السلطنة، بعمقها التاريخي الذي يمتد في الوجود الحضاري إلى ما يقرب من 3500 قبل الميلاد، وبخصوصية قيّدها التاريخ وأحداثه عبر العصور، فسوف نقف عند البنية المكانية الحالية، بكل تفاعلاتها الحضارية التراكمية، التي من خلالها وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، في وقتنا الراهن.
ثمة ملامح في بيئة السلطنة تقود إلى أهمية أن يكون لدينا منظومة بحثية تنطلق من النقد الثقافي، النقد بمعناه التساؤلي الاستيضاحي الموغل في بنية الملامح والأشكال، للبحث في الجوهر العميق المستكن وراء تفاصيل الشخصية العمانية، الذكورية والأنثوية، وربطها بالبيئة التي تنتمي إليها ، باعتبار أن السلطنة تتوفر لها مناخات جغرافية متعددة، جبلا وساحلا وصحراء، بداوة وحضرا وصيادين ومزارعين ، بما يعنيه ذلك من تراكم مكثف من ناحية، وتأثر وتأثير مفتوحين من ناحية أخرى.
هذه الملامح ليست سوى مفاتيح، لفتح أبواب مستغلقة حول تفاصيل جمة، نجد أن النقد الثقافي هو الأقرب إلى فهمها اكتمالا من حيث التشكيل، ومن حيث كون الأسئلة بأنماطها الاستقصائية والوصفية والتحليلية ستعمد إلى إضاءة المعتم الذي لا تراه العين المجردة ، ولا تقاربه الكتابات العابرة ، ولا تتنفسه الحيوات التي لا ترى منه سوى مظهره الخارجي .
نحكي هنا انطلاقا من كون الملامح ليست مجرد إشارة أو نجمات اهتداء في ليل سكون، بل هي الدهشة الأولى التي تفرض على المعرفة ان تنقل إليها خصائصها الاستفهامية الراغبة في الوعي، والمستدرة منها عطايا الشغف، كي تفتح كوّات في الجسد الأكبر الذي نسميه المجتمع.

بكارة
عبارة قديمة سمعتها منذ تسعينيات القرن العشرين الفائت، مفادها أن الخصائص المجتمعية العمانية لا تزال بكرا، وبعد كل هذه السنوات، وعلى الرغم من تعدد القنوات البحثية، وازدياد المنتمين إلى حقول البحوث الاجتماعية والأدبية، واتساع مدارك الاشتغالات الصحفية، لم يتشكل لدينا ما نبحث عنه، وهو النقد الثقافي، الذي يكون البحث فيه رصينا ومتمكنا ومسؤولا في الوقت ذاته، ولأننا كذلك، فمن المؤسف القول إنه لا يزال بكرا، مع بعض جهود هنا وهناك، متفرقة ومجتهدة في إطار إمكانات بسيطة، ولكنها ليست المؤسسية بمعناها الداعم .
الملفت للنظر هنا، هو توفر المواد الخام، المثيرات المعرفية، الأشكال التي تدفع بالكتابات النقدية والمعرفية المختلفة من أجل التشكل وبناء مناخها من واقع طروحاتها، ولكن لم يكن لدينا سوى الرصد الوصفي السطحي، والعبارات الهزيلة التي لا تستقيم مع جوهر ما تفرضه المشاهدات والمعايشات المحايثة والضمنية على العين والذاكرة والسلوك وتاريخ نشوئها وكيفية تفاعله مع المكان والذوات، فصار المطروح في الرسالة السمعية والبصرية يتنقل بين نقل جميل يفتقر إلى تعميق، أو رصد ظاهري يفتقر إلى إكمال الحكايات الناقصة في ذلك المرصود .
ما تعنيه البكارة التي تتوفر عليها المادة الخام في البيئة العمانية هو اتساعها وشمولها مناحي الحياة المختلفة، وانفتاحها على الخصوصيات المتصلة بها، والكاريزما المشكّلة الأفراد المنتمين إليها ، وهنا نعني العديد من الأمور، منها مثالا لا حصرا : اللباس، الطعام، التداوي، الزراعة، تربية المواشي والإبل، الطرب والغناء، النساخة ، السلوك التربوي تبعا للجنس والمراحل العمرية، الميلاد والوفاة، اللسانيات والجغرافيا المنتمية إليها، السرد النثري، الشعر، وغيرها الكثير من المحددات التي رِسمت ملامح المكان ومن فيه .ِ
ما ذكرناه على مستوى الأمثلة هي مساحات خام وبكر، يستطيع النقد الثقافي أن يتعامل مع جزئيات تفصيلية منها، أو بشكل شمولي، وفقا للبيئات التي تنتمي إليها، لفهم الأنساق التي تشكل المنظومة العامة في المجتمع الواحد وهو السلطنة، ولكن هذا لا يمكن أن يكون له جدوى ما لم يتم الاشتغال الفعلي عليه.

اشتغالات
سيكون من الإجحاف القول بأنه ليست هناك اشتغالات على الثقافة المجتمعية عموما في السلطنة، وسيكون من غير المفيد إقصاء الجهود التي تنتمي إلى محاولات في تأصيل الثقافة الشعبية في السلطنة، باعتبارها جزءا من التكوين العام النسيجي للثقافة العمانية، هذا إذا قلنا بأن الثقافة التكوينية في السلطنة تعيش بين جناحين، أحدهما مبني على العلم والدراسة والتحصيل بمعناه المنهجي، والآخر مبني على التلقين والتلقي المباشر المصحوبين بالتعويد والتطبيق، وهذا يتبع الجوانب المهنية والسلوكية والقولية، على على عكس الجناح الآخر .
ما يمكن القول عن هذه الاشتغالات المتفرقة والجهود المختلفة ، إنها قدمت الجانب الوصفي الصرف ، الذي يفتقر إلى القراءة المبنية على فهم لتلك التكوينات الثقافية ، وتحديدا في ما يتعلق بالثقافة الشعبية ؛ باعتبار أن ما تم رصده من تحقيق للمخطوطات – على سبيل المثال – لم يكثف الجهد القرائي المحيط بالبيئة المحيطة بالمنتج العلمي / الثقافي الذي انتمت إليه الوثيقة، ولم يتم رصد المكان، بالقدر الذي تأخذه الشخصية والتوثيق المعلوماتي شرحا وتحليلا ومرجعية، وهذا يجعل العمل في شقه المرتبط بالنقد الثقافي ناقصا، مما يجعلنا أمام جهد جيد في جهة، ومقصر في جهة أخرى ؛ وهناك جانب آخر، فالوصف الذي يتتبع الحياة الصحراوية في السلطنة- مثلا - ، من زاوية التسجيل البصري المصحوب بالتعليق، ينتصر للصورة على حساب ما وراء الصورة ذاتها، مما يجعل البنية المعرفية المعلوماتية متوافرة، ولكن المستكنّ وراء المعلومة يظل غائبا على مستوى تحليل جوهره ، وهو ما يترك بونا شاسعا بين ما ترمي إليه ثقافة الصحراء من ناحية، وما يتم توثيقه عنها من ناحية ثانية؛ فمن حيث متعة الصورة هناك تحقق جيد على مستوى المشاهدة، لكن على المستوى الجذر ليس ثمة تحليل ومقاربة، إنها كلمات واصفة لا أكثر، وكانت الصورة كفيلة بقول ما تريد.

خاتمة
القول بضرورة مقاربة التكوينات المكانية على مستوى ما شكلته المعرفة البشرية في البقعة الجغرافية للسلطنة بات مهما ، في ظل تنام عال للمدينة بشكل عام، إذ نظن أنه بعد فترة من الوقت، ومع اتساع الحاجة إلى عناصر التكنولوجيا، وانحسار الفئات العمرية العارفة بمستكنات الثقافة العمانية لن تكون موجودة ، إذا اعتبرنا أنها مصدر مهم لفهم جوهر القالب وليس القالب ذاته، وباعتبارها جزءا أساسيا من المكون الذي يشترك تضامنيا مع مكونات أخرى لإعطاء صفة الشخصية والكاريزما المتصلة بها، من زاوية التحليل وفهم البناء الجوهري العميق لها .
من أجل تحقيق هذا الجانب نظن أن الضرورة تقتضي تفعيل النقد الثقافي ، بالقدر الذي تتيحه الظروف ، من واقع أنه لا توجد جهات معنية بتسخير الطاقات البشرية لفعل ذلك ، وتحويله إلى مشروع وطني ، لهذا نعوّل دائما على ضرورة نشوء جهود تشتغل على (النقد الثقافي) الذي سيكون له مردود تفاعلي على المدى الطويل، وربما سنجد من يتبناه من الأجيال الجديدة ، لإكمال رسالة الوعي المتصلة بالمكان.

عبدالله الشعيبي