يبدأ المسلمون اليوم أول يوم دراسي في مدرسة الصيام العظيمة، وحين نصف هذه المدرسة بأنها عظيمة فإننا نعني ذلك ونقصده، لكونها مدرسة ليست من صنع البشر، وليس لعقولهم وفكرهم دور في هندسة هذه المدرسة وإعداد منهاجها وأساليب التقويم التكويني المستمر من امتحانات وأنشطة تقيس الهدف الرئيسي لهذه المدرسة الربانية وهو تحقق التقوى في أنفس الصائمين وقلوبهم. كما أنها مدرسة في عظمتها تختلف عن مدارس البشر من حيث أسلوب الثواب والعقاب للمثابر الناجح والمقصر في استذكار دروس مدرسة الصيام، فالثواب لا يعادله ثواب لمن اجتهد حق الاجتهاد وبذل نفسه وإخلاصه وأمانته لاغتنام فرصة فهم المعاني والدروس والعبر وتطبيقها في حياته العملية وجعلها مصباحًا وضَّاءً ينير له دروب الحياة المليئة بالمغريات والشهوات والوساوس التي يبعثها شياطين الإنس والجن. كما أن العقاب بالحرمان من الثواب والأجر بالنسبة للمقصر في إدراك قيمة المعاني والحكم من دروس منهج مدرسة الصيام، لا يعدله عقاب، حيث يأتي وقد خلا ميزان حسناته وعمله من أي حسنة أو أجر ومثوبة، فيغدو يقلب يديه على ما فرط وقصر في جنب الله وابتعاده عن مذاكرة دروس مدرسة الصيام وانشغاله بالملهيات ومختلف الألعاب وانسياقه وراء المغريات والشهوات الآنية.
ها هي مدرسة الصيام تبدأ اليوم عملها بعد أحد عشر شهرًا منهم رأى فيها أنها إجازة ليمارس فيها أنشطته الدنيوية على حساب أنشطته الأخروية الواجبة، منتظرًا قدوم شهر رمضان، معتقدًا أن خير العمل والاستعداد للآخرة يجب أن يكون في هذا الشهر فقط، ومن الناس من أتبع أيامه وأشهره ليوصلها من رمضان إلى رمضان بالعمل الجاد والمثمر والخير والطاعات وتهذيب السلوك والأخلاق.
وها هي مدرسة الصيام تفتح أبوابها لمن منَّ الله عليه بالحياة ليعيش دقائق متعة دروسها ومنهاجها القويم وينعم ويغنم من خيراتها وثوابها وأجرها المضاعف، إنها فرصة تدعو فيها إلى مكابدة رياضة روحية تستهدف ضبط النفس والسلوك والأخلاق وقمع الشهوات، خاصة حين يتعرض المرء لحالة من الاستثارة أو الاستفزاز. إنها مدرسة تعلمنا الوسطية في القول والفعل والتماس الأعذار للآخرين ولين الجانب والتغاضي عن المعاملة السيئة بمثلها حيث يكفي المرء المسلم الصائم أن يبعث برسالة بسيطة هادئة ولكنها عميقة المعنى والمغزى كرد على إساءة الآخرين، إنها رسالة "إني صائم" وفي هذه العبارة البسيطة تكمن فلسفة كبرى من فلسفات العقيدة الإسلامية، وهي المجاهدة الروحية أمام طوارئ الأحداث.
فالعلاقات الإنسانية لا تستقيم إذا تصيد الإنسان أخطاء الإنسان وعزم على مواجهة السيئة بالسيئة. بل تعلمنا مدرسة الصيام أن نصبر وأن نواجه الإساءة بالإحسان، وأن نعمد إلى الحوار والحجة في الرد على الخصوم مهما غالوا في عنتهم وأغلظوا في الإساءة للإسلام والمسلمين.
إن مدرسة الصيام ممثلة في شهرها العظيم المبارك تدعو إلى خلق الرحمة والتراحم وتدعم وسطية الحوار وتضع الحدود التي ينهجها الإنسان المسلم كي يكون نموذجًا يجذب الآخر نحو التفكير في سماحة هذا الدين الحنيف.
وما يلفت الانتباه أن مدرسة الصيام تفتح أبوابها لجميع المسلمين وقد زادت الإساءة إلى الإسلام من قبل من يحملون اسمه أو ينتحلون صفته، ومن غيرهم على نحو لم يعهده المسلمون من قبل، ولكن رغم ذلك لا يزال الأمل كبيرًا في أن تنقشع هذه الغمة وتتجاوز أمة الإسلام هذه الغمة وهذه المحنة انطلاقًا من الالتزام بمنهاج مدرسة الصيام، فكل عام والشعب العماني والعرب والمسلمين كافة بخير وسعادة ومحبة وتميز وتقوى في الأقوال والأفعال.