[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
”.. إن الإنسان ابن بيئته, والشعر هو لغة القلوب الدافئة, وهو تجسيد للبيئة. ورغم الجمال في كل البيئات العربية, تنحسر قراءة الشعر في الوطن العربي حاليا! إن أمة لا تقرأ الشعر, ولا تتحمس لطباعته, هي أمة ينقصها الكثير, فجمالية الشعر... تنبعث من الروح, وتغذيها, تملؤها بالصفاء الإنساني كسلاح في مواجهة الحياة.”
ــــــــــــــــــــ

إذا أردت طباعة ديوان شعر, وذهبت من أجل ذلك لناشرٍ ما, لتسأل عن إمكانية طباعته لديه, يكاد يُغمى عليه, وغالباً ما يكون جوابه بالرفض القاطع, مدّعيا بأن الجماهير العربية لا تقرأ الشعر! كاتب هذه السطور لا يدّعي مشهداً متخيلاً , بل يعكس حقيقة الواقع العربي في أيامنا هذه, ومنه: أن الكتب الأكثر مبيعاً في معارض الكتب العربية, هي الكتب المتعلقة بأمور الطبخ والأبراج. وأن معدل قراءة الفرد العربي هو ربع صفحة سنويا, أو عشرة دقائق في استطلاعات أخرى. أودّ أن أسأل قارئنا العربي الكريم , لو أن فنانة ما, أصدرت مذكراتها , فهل يفضل قراءة كتابها أم قراءة العقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي, على سبيل المثال وليس الحصر!.
نعود للشعر! قال الرسول العربي الكريم صلوات الله وسلامه عليه " إن من الشعر لحكمة, وإن من البيان لسحراً". في الزمن العربي قبل الاسلام كانت المعلقات تعلق على جدران الكعبة, وكتبت بماء الذهب. في ذلك الزمان انتشرت أسواق الشعر العربي , منها : سوق عكاظ , مجنة , وذي المجاز! معروفة هما بالطبع قصيدتي علي بن الجهم, وقد كان بدوياً جافياً , قدم إلى المتوكل العباسي , فأنشده قصيدة , من بيئته البدوية, ويقول فيها:
أنت كالكلب في حفاظك للود... ... وكالتيس في قِراع الخطوب
أنت كالدلو , لا عدمناك دلواً ......من كبار الدلا كثير الذنوب
فعرف المتوكل حسن مقصده وخشونة لفظه , وأنه ما رأى سوى ما شبهه به, لعدم المخالطة وملازمة البادية, فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة, فيها بستان جميل, يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح , والجسر قريب منه, وأمرله بالغذاء اللطيف, فكان ابن الجهم يرى حركة الناس ولطافة الحضر, فأقام ستة أشهر على ذلك , والأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته, ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده, فحضر وأنشد قائلا:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.
هذا يعني, أن الإنسان ابن بيئته, والشعر هو لغة القلوب الدافئة, وهو تجسيد للبيئة. ورغم الجمال في كل البيئات العربية, تنحسر قراءة الشعر في الوطن العربي حاليا! إن أمة لا تقرأ الشعر, ولا تتحمس لطباعته, هي أمة ينقصها الكثير, فجمالية الشعر... تنبعث من الروح, وتغذيها, تملؤها بالصفاء الإنساني كسلاح في مواجهة الحياة.
بيت شعر واحد قتل المتنبي, عندما تقاعس عن الذهاب إلى معركة, ذكّره أحدهم ببيت شعره القائل:
الليل والخيلُ والبيداء تعرفني ..... والسيف والرمح والقرطاسُ والقلمُ
بعدها قام المتنبي محارباً , وقاتل حتى قتل. تصوروا لو أن الشهيد غسان كنفاني لم يقدّم شعراء المقاومة الفلسطينيين إلى الأمة العربية, لكان هؤلاء قد تأخروا كثيراً في تقديم أنفسهم. تصوروا لو تأخرت ترجمة أعمال لوركا وناظم حكمت وغيرهما, كم كنا سنخسر الكثير. في وطننا العربي شعراء عظام, قديمون وحديثون, ومع ذلك يتأخر الشعر في زمننا, ولا يطبع ديوان إلا على حساب صاحبه! كم من الشعراء ماتوا غير قادرين على طباعة أشعارهم, ذهبوا وذهبت الأشعار. في وطننا العربي 22 وزارة ثقافة عربية, ومؤسسات ثقافية عريقة لا تحصى ولا تعد, ودور نشر بالآلاف, ومع ذلك, يحتار الشاعر, أين يطبع ديوان شعره, فإن جاء ناشرا يقدمه له, يعتبره الأخير مجنوناً. إن معظم دور النشر أُنشأت للربح ولا علاقة لها بالثقافة. جميل ومهم أن تربح دور النشر, لكن لتجعل 5% من عملها مكرّسا لخدمة الثقافة والمثقفين.
كتب صاحب هذه السطور على صفحات "الوطن" أن أمتنا العربية خسرت كافة الجبهات الأخرى: العسكرية, السياسية, الاقتصادية, وغيرها. بقيت جبهة واحدة لم نخسرها بعد, وهي "الجبهة الثقافية, وإن خسرنا هذه الجبهة, فالسلام على هذه الأمة. نعم, الشعر العربي ,قديمه وحديثه , هو ركن أساسي من هذه الجبهة! وأخيراً, هل من مستمعين يتفاعلون إيجابا معما كتبت؟ .