[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]
لنعترف بأننا بحاجة اليوم الى ثقافة الذوق في كل جوانب حياتنا الشخصية والمؤسسية، والى بناء هذه الثقافة وتأطيرها في مناهجنا التعليمية وخطابنا الثقافي والاجتماعي وواقع عمل المؤسسات، بشكل يضعها منطلقا للتجديد والثقة، فمع القناعة بأهمية المحتوى الخطابي في بناء ثقافة الذوق، يبقى طريقة إيصالها واسلوبها تعبير واضح عن مسارات البحث عن التغيير عبر توظيف المنصات الخطابية، والمساحات التواصلية وتقريبها من نفسيات الأفراد، وبالتالي ينطلق تناولنا للموضوع من أهمية تأطير المفاهيم والمصطلحات والقيم والعادات والممارسات المرتبطة لتصبح مشاعة في المجتمع، متداولة بين الناس؛ بالاضافة إلى تقنين الممارسات ووضع الضوابط والاجراءات الداعمة لمسار الذوق الاجتماعي، عبر الاشتراطات التي تضعها الجهات المعنية على النسق المعماري والطابع الجمالي للمباني والواجهات السكنية والتجارية، بهدف الوصول إلى ذائقة جمالية مناسبة، أو القوانين التي تحفظ للذائقة الجمالية موقعها في حياة الناس العامة، ويضع حدا لأي ممارسة تنتهك حق الذوق العام والمزاجيات التي تبرز ثقافة المجتمع وقيمه وأخلاقه وخصوصيته وحسن تصرفاته، وتعامله الراقي وحسه المرهف الواعي الحريص على صناعة قدوة للآخرين في تصرفه، كمنع رمي الفضلات في الاماكن غير المخصصة لها، أو ترك المكان مشوها بعد الاستجمام فيه، أو العبث بالممتلكات العامة، أو قطع الأشجار في الأماكن الصحراوية، أو نقل رمال الأبنية من بطون الأودية، أو إلقاء مخلفات الأبنية أمام البيوت والساحات العامة، أو ترك المركبات على الشارع العام لمدة طويله، أو منع استخدام بعض الأصباغ والديكورات أمام الواجهات الامامية للمنازل والمحلات التجارية والعمارات، أو منع الأيدي العاملة الوافدة من ارتداء بعض الملابس غير اللائقة أثناء العمل، وغيرها.
إن البحث في مسارات أعمق لثقافة الذوق والمزاج العام ينبغي أن تؤسس في القوانين العامة وأنظمة عمل المؤسسات وتراعيها القرارات والتعميمات، بالشكل الذي يدفع إلى بناء مناخات الثقة، وترقية قيم التواصل والذوق وإدارة المشاعر، وبالتالي نقل ثقافة الذوق من مجرد ممارسات عشوائية غير مقننة، تتم وفق مزاجيات الأشخاص ونفسياتهم وتتحكم فيها عواطفهم وقناعاتهم ومستوى رضاهم، إلى أن تصبح ثقافة عمل، ومحطات يتفاعل خلالها الفرد مع معطيات الحياة اليومية ومواقفها المتنوعة ، لتصبح ممارسات تتعايش مع سلوك الانسان ، ومعايشة يومية للمواطن، في محيطه العائلي والوظيفي والاجتماعي، عبر التزامه الدور في قيادة مركبته واستخدامه للطريق، وانتظار الحصول على الخدمة، وحرصه على تقديم ذوي الاعاقة وكبار السن، ومنع الوقوف في مواقف المعاقين، ومنع اللعب بكرة القدم في الحدائق والمتنزهات العامة، وغيرها، تحكمها قواعد واضحة وتشريعات واستراتيجيات اداء محددة، في ظل عمليات التقنين والضبطية والتوجيه والرقابة والمتابعة.
لقد ادركت مؤسسات الدولة القيمة المضافة المرتبطة بالذوق كسلوك حضاري وطني يعكس شخصية الانسان العماني ، لذلك منعت بعض الممارسات التي تتنافى مع هدف مراعاة الذوق والمشاعر، فهي مع منعها للتفحيط في الشوارع العامة، أوجدت نوادي لسباق السيارات وحلبات لممارسة هذه الرياضة، بالشكل الذي يمكن خلاله الدفع بهذه الجهود والمبادرات نحو بناء ثقافة مستدامة بالمجتمع تراعي أدب الذوق وقيم التواصل الراقي وحسن الخلقبما ينعكس على واقعنا الاجتماعي.
هذا الأمر يضع المؤسسات امام مراجعة لمحددات السلوك التنظيمي وجودة الحياة المهنية، ومستوى اقترابها من تحقيق هذه المعايير والمبادئ العامة، ومساحات التنافس بينها في سبيل تكوين بيئة عمل جاذبة قادرة على بناء الثقة، وترقية مستوى الدوافع والطاقات الايجابية لدى الموظف بما ينعكس على انتاجيته ، والبحث في البرامج التدريبية والخطط التطويرية والمبادرات الداعمة لترجمته في الواقع المؤسسي، في التعامل مع الموظف، ولغة الخطاب مع المسؤول، وادارة المشاعر ومراعاة النفسيات داخل المؤسسة ،وآليات التحفيز والتكريم ، ومعاييرالمحاسبية التي تتم في اطار الذوق العام واسلوب الحوار النابع من صدق المشاعر وهدف الاصلاح، على أن ما أكده التشريع العماني من قدسية الكلمة وسلامة اللفظ المنطوق من الخدش أو التأثير في علاقات الناس وتعاملاتها، يأتي تأكيدا لأهمية حضور قيمة الذوق في سلوك المواطن، لما يشيعه من فرص التعاون والتآلف ووحدة الهدف، وبالتالي حرّم القانون كل ما فيه اساءة على أحد بالقول أو الهمز أو اللمز، بالشكل الذي يضمن للذوق قيمة مضافة في حياة المجتمع، عبر تداول العبارات الايجابية، والكلمات الطيبة الراقية، والاحترام والتقدير كلغة احتواء واتصال وتواصل مؤثرة، وبالتالي اسقاط مفهوم الذوق والمزاج العام من مجرد شكليات عامة في اختيار ديكورات المنازل والاصباغ إلى أساسيات التعامل مع المواطن في البنوك وقاعات إنجاز الخدمات ( شركات الاتصال والكهرباء والمياه ، ودفع الفواتير) في أسلوب التخاطب وذوق الخطاب، وآلية الرد على بعض المعاملات، واساليب التعامل مع المراجعين، وتعزيز كفاءة دوائر خدمات المراجعين والشؤون الادارية والمالية ومكاتب رؤساء الوزارات والهيئات الحكومية، وتمكين العاملين في مراكز الاتصال بالمؤسسات من اتقان لغة الخطاب وثقافة التعامل وحكمة التوجيه وامتصاص الغضب بالشكل الذي يمنحها ثقة المجتمع واعترافه بها، عبر برامج تدريبية متخصصة في أساليب التعامل ولغة الخطاب، وطريقة الردود الرسمية، او الردود التي تتم عبر شبكات التواصل الاجتماعي وصفحات المؤسسات ومواقعها الالكترونية، بالشكل الذي يمكن خلاله نقل هذه الثقافة من حيز التنظير إلى التطبيق الفعلي، ومن حالة الاختيار حسب المزاج؛ إلى سلوك مؤسسي يمارسه المسؤول والموظف، تؤكده التشريعات، وتقره أنظمة العمل، ويعتمد أساليب تشخيص ورصد وتقييم تضمن الثقة في أدواته، والوضوح والجدية في مسار عمله.