ناصر العزري:الصيام إيقاظ للقلوب على المراقبة الدائمة إذ لا يُعلَم الصائم من غيره غير المولى جل وعلا
على المسلم أن يستقبل هذا الشهر في أولى حالاته بالتوبة الصادقة النصوح ويجدد العزم على فعل الطاعات
التسابق الكبير بين أهل الخير في تفطير الصائمين وقضاء حاجة المحتاجين وتنفيس كربة المكروبين

التقى به ـ علي بن صالح السليمي:
يقول فضيلة الشيخ ناصر بن يوسف العزري مدير دائرة الفتوى بمكتب سماحة المفتي العام للسلطنة بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية عن هذه المناسبة الغالية وهي استقبال شهر الصيام: ان شهر رمضان المبارك من الشهور العظيمة التي اختارها الله لعباده وجعله موسما خاصا يتبارى فيه الناس على تحصيل الأجور الكثيرة ولذلك نسبه الله تعالى إليه، مصداقا للحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به" وذلك أن الصيام فيه إيقاظ لقلوب الناس على المراقبة الدائمة إذ لا ُيعلم الصائم من غيره غير المولى جل وعلا لذلك امتّن الله على عباده بمختلف الخيرات في هذا الشهر وضاعف فيه من الأجور، ومن هنا لا بد أن يفترق استقباله عن بقية الشهور لما يحمله هذا الشهر من مزايا عظيمة وهبات جزيلة تعين الإنسان على تغيير مجرى حياته وتجعله حقيقا بالانتساب إلى الله عز وجل، ولا شك على أن المسلم يحتاج إلى ترويض هذه النفس وترقيتها إلى مدارج الكمال ولن يجد فرصة أعظم من هذه الفرصة في أي وقت من الأوقات أفضل من هذا الشهر الفضيل.
مذكرّا في هذا الجانب بأن على المسلم أن يستقبل هذا الشهر في أولى حالاته بالتوبة الصادقة النصوح فهي أول المراحل التي يفضي منها الإنسان إلى بلوغ الغاية من التقوى التي نص عليها المولى جل وعلا حينما فرض شهر الصيام فقال:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وهذه الحياة بما فيها من ألوان الترف والمجون واللعب تبعد الإنسان عن ربه فهو محتاج إلى هذه المراجعة الدقيقة والرجوع الحقيقي لينفض عن نفسه غبار التخليط الذي وقع فيه ويخلع عن نفسه لباس الطيش والعبث وأن يجدد العزم على فعل الطاعات وأن يعقد النية على عمارة وقته بالخيرات، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) من هديه أن يبشّر أصحابه بمقدم هذا الشهر المبارك ويدلهم على اكتساب الأجر فيه، ففي الحديث عنه (صلى الله عليه وسلم): "أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حَرُم خيرها فقد حُرِم"، وقال (صلى الله عليه وسلم):"من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له من ما تقدم من ذنبه".
وقال الشيخ العزري: ان التوبة بكل معانيها يحتاج إليها الكل من البشر حتى أهل الطاعة يحتاجون إليها فقلما يخلو امرئ من زلة لسان أو عثار في القول أو خلل في العبادة، ومن أجل ذلك كان الاستغفار دأب المؤمن التقي وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو أطهر الخلق يستغفر ربه في اليوم سبعين مرة وفي رواية مائة مرة.
موضحا بأنه من محامد الأمور العظيمة التي ترفع الإنسان في هذا الشهر الصدقة ولذلك نجد التسابق الكبير بين أهل الخير في تفطير الصائمين وقضاء حاجة المحتاجين وتنفيس كربة المكروبين، يقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم):"اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن الصدقة تطفيء النار".
مؤكدا بأنه مما ينبغي على المسلم تذكره وهو يستقبل هذا الشهر مراجعة الأحكام الشـرعية المتعلقة بالصيام وسؤال أهل الذكر والرجوع إلى العلماء ودراسة العلم النافع وحضور حلقاته ومراجعة القرآن الكريم وقراءته، وقد كان هذا من هدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فالرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"، لهذا فالمسلم الصادق وهو يعيش بين أحضان هذه العبادة وهذا الشهر الفضيل يتقلب في أعطاف هذا النعيم لحقيق أن يكون استقباله كريما وحقيق أن ينتسب إلى ربه بتلك الصفات.
واشار فضيلته الى إن شهر رمضان المبارك من الشهور الجليلة ومن المناسبات العظيمة التي تجتمع للإنسان فيه كثير من الفضائل فتحسن من خلقه وتساعده على مصاعب الحياة وفيه تدريب لهذه النفس الإنسانية الضعيفة وتربية لها فيربها على المعاني السامية والأخلاق الكريمة وتعينه على المراقبة الدائمة فلا تمتد يده إلى الطعام والشراب لأنه يعلم أن هناك ربّاً يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
مبيناً بأن هذا الشهر العظيم يطّهر هذه النفس البشرية من دنس الشهوات ويقوي فيها معنى الإرادة، فإمساك الإنسان عن طعامه وشرابه سحابة النهار ليس المقصود بها تعذيب النفس وإنما تهذيبها والوصول بها إلى المعني الحقيق للعبادة فعندما يسيطر الإنسان على نفسه فيمنعها من الطعام والشراب فهو بذلك يدرب نفسه الإمساك عن الأهواء كما تذكره بحال غيره من الفقراء والمساكين فيراجع بذلك نفسه فتنطلق يده في سبيل إخراج ما عليه من حقوق تجاه إخوانه المسلمين، فلا فحش في القول، ولا غضب على أحد، لذلك فالسيطرة على النفس علم، والتصدي على الآخرين جهل. والصيام مبادلة الإساءة بالحسنة، والعدوان بالعفو والمغفرة، ولذلك كانت تلك الجملة العظيمة في الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به" تؤكد هذا المعاني السابقة وتشحنها بمبدأ الإخلاص في العبادة وهي من أجل المراتب التي يصل إليها العبد المؤمن إذ إنه سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره ولذا يقول سبحانه في الحديث القدسي: "يَدَعُ شهوتَه وأكلَهُ وشربَهُ من أجلي"، ومن هنا كانت تلك الجمل من المنهيات التي ينهى عنها العبد في حالة صيامه من الصخب والرفث واللغط والنظر إلى المحرمات تصفية وتزكية لهذا النفس ويأتي الصيام وقاية لها من جميع تلك الأدران فالصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدنا منع من هذا كله كما جاء في الحديث عنه (صلى الله عليه وسلم):" .. والصِّيامُ جُنَّة، وإِذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصخَب، فإِن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلهُ فلْيَقُلْ إِني امرؤٌ صَائِم"، فإذن ليس الصيام ـ كما يعتقد البعض ـ انتهاء عن الطعام والشراب فقط وإنما هناك جملة من الأمور على الإنسان الصائم أن يتقيد بها، فترك الرذائل صيام، والبعد عن قول الزور والعمل به صيام، وفي الحديث:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فإذا ما تعود الصائم على هذا في رمضان ومضى في سبيل تحقيق هذه الصفات الجليلة وابتعد عن شهوات النفس وقيد نفسه وعودها على عوائد الخير أخذ بحظ وافر من شهره وصدق مع نفسه وكان من جملة المؤمنين الموفين لحقوقهم العارفين لحدودهم وكان ما بعده أيسر له إذ فطر النفس على هذا هو الغاية التي يسعى إليها العارفون المتقون.
وقال الشيخ العزري: إنه ومع هذا كله نجد هناك تباينا كبيرا بين الناس في هذا المقام ويصنع هذا التباين ما قدمنا فقرب الإنسان وبعده عن ربه هو بيديه فإن أراد الراحة الكبرى قدم نفسه لله وجعلها تحمل معني العبادة الحقة وحرص كل الحرص على ذلك أما أولئك الذين شغلتهم حياتهم الدنيا وجعلوا من رمضان فرصة للتنفيس عن طبائهم ولم يحاولوا التغيير من مجرى هذه الحياة في هذا الوقت المناسب من الأيام فلن يجدوا وقتا آخر لذلك، فنجد من هؤلاء من جعل من الصيام فرصة للتسابق إلى صنع أنواع الطعام والشراب واشتغلوا بذلك أيما اشتغال فإذا جاء رمضان غير من مجرى حياتهم البسيطة إلى حياة ملؤها البذخ والسرف في شهر يطالب فيه الإنسان أن ينظر إلى الفقير ويواسيه ويراجع نفسه بعدما جرعها ألم الجوع ومذاقه فمن السذاجة أن يخالف ما علم فلا يرفق بفقير ولا ينظر إلى قدسية هذا الشهر، فحري به إذن أن يعود إلى ربه ويحسن إلى نفسه ويقلع من تقاليده، وليجعل من هذا الشهر أداة توصله إلى معنى (الاعتدال والتوسط) ،والاعتدال والتوسط أساس الفضائل ولبها، والإسراف والتبذير منبع الفتن وعينها فليحذر الإنسان كل الحذر من أن يجنى على نفسه فيرديها بمهاوى الردى وهو غني عن ذلك، وقاعدة الإعتدال يجب أن تضبط في كل شئ فالإسراف في الأكل يؤدي إلى زيادة الوزن وإصابة الإنسان بالأمراض المختلفة والسمنة التي يصبح بها الإنسان قليل الفاعلية بطئ النشاط والإسراف في استخدام الماء يؤدي إلى ذهابه ونقض مخزونه، وهلّم جرّا .. إلى غيرها من الأمراض النفسية والاجتماعية التي تصيب المجمتع من فعل هذا المسرف فكيف ينظر الفقير وهو مدقع في فقره إلى هذا الإنسان الذي يملك هذه الأموال الطائلة يرميها في المزابل، من خلال مأكولاته ومشروباته الكثيرة، يزرع الحقد ويجنى ثمرته هذا الغني.
وقال: إن الإسلام لا يريد من الإنسان أن يكون عبد بطنه يعيش ليأكل، ويغدو ويروح وليس له هم إلا مائدة عامرة بألوان الطعام يبتكر فيها الوسائل المختلفة التي تملأ بطنه ومعدته فهؤلاء لا يصلحون في هذه الحياة، والعاقل يعلم تمام العلم أن ملذات الطعام وحطام الدنيا أنزل قدرا من أن يتفاني في طلبها ويسعى في تحصيلها، فعلى الإنسان أن يرفق بنفسه لأنه يعلم أن له ربًّا يحاسبه وليسعَ جاهدا في سبيل فعل الطاعات على الوجه المحمود الذي أمر به وليشكر ربه على نعمة العافية التي تمكنه وهو في سعة من العيش إلى فعل ذلك وليراقب ربه في جميع أحواله وأقواله وأفعاله لتدوم عليه النعم وتكثر عنده الخيرات فإن المعصية شر كبير وشررها مستطير، وليجعل من شهره سبيلا إلى المضي إلى الأشهر الأخرى على نفس ما مضى عليه في رمضان لأن الرب واحد يحاسب في رمضان وفي غيره.