[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/03/must.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أحمد مصطفى[/author]
”لم نكد ننسى تلك الفورة في دور فيسبوك في تحركات ما سمي "الربيع العربي"، والتهليل الإعلامي لكيف أدى انتشار الهواتف الذكية واتساع الاتصال بالانترنت في تعبئة الجماهير لتخرج إلى الشوارع والميادين وتسقط أنظمة وحكومات تملك كل أدوات السلطة والقوة والنفوذ. وبعد قليل، انتشر تويتر ـ خاصة في منطقة الخليج ـ وبدأت جهود استغلاله لزعزعة استقرار منطقة من أكثر مناطق العالم بعدا عن اضطرابات الداخل.”
ـــــــــــــــــــــــ

وصلت قضية التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأميركية العام الماضي مرحلة جدية بتوجيه اتهامات لمسؤولين سابقين في حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية. وتزامنت الاتهامات القضائية مع جلسات استماع في الكونجرس (البرلمان) الأميركي لشركات مثل فيسبوك وتويتر وجوجل حول دورها في ترويج دعاية روسية عبر ما تسمى "مواقع التواصل"، أو كترجمتها عن الانجليزية "الإعلام الاجتماعي". وتذكرني حكاية "الاجتماعي" هذه بإدارات "الشؤون الاجتماعية" التي كانت مهمتها "تخفيف الأعباء الحياتية على الشرائح المحتاجة من المجتمع". وكانت تلك في الواقع الفرية الترويجية لبروز هذه القنوات الإلكترونية كبديل للإعلام التقليدي الرئيسي، باعتبارها منفذا لتوفير المعلومات والأخبار بحرية بعيدا عن أي قواعد أو ضوابط. وبلع المليارات الطعم السائغ والمغري بأن الوفرة المعلوماتية تعني مساحة حرية للجماهير "المقموعة" و"الموجهه" نتيجة رسالة وسائل الإعلام التقليدية.
وبغض النظر عن قضية التدخل في الانتخابات الأميركية، والتي لن تعرف أسرارها بالضبط كجريمة اغتيال الرئيس السابق جون كنيدي وغيرها، إلا أن إثارة خطر ما تسمى السوشيال ميديا على الديموقراطية حقيقي وربما يكون أكبر بكثير من جلسات استماع الكونجرس أو مطالبات السلطات لشركات التكنولوجيا بضبط نشاطها. وعلى مدى السنوات الأخيرة، ومع زيادة عدد العمليات الإرهابية في الدول الغربية، توسع السياسيون في تصريحاتهم التي تطالب شركات التكنولوجيا الكبرى باتخاذ الإجراءات التي تحد من استخدام الإرهابيين لمواقعهم في التجنيد والتمويل والتنسيق والتجهيز للعمليات. وتناقض ذلك المنحى كليا مع التبشير والترويج لتلك المبتكرات التكنولوجية التي كانت قبل بضع سنوات قليلة "أدوات جديدة لنشر الديموقراطية وتمكين الشعوب وتعزيز الحرية في الدول الشمولية".
لم نكد ننسى تلك الفورة في دور فيسبوك في تحركات ما سمي "الربيع العربي"، والتهليل الإعلامي لكيف أدى انتشار الهواتف الذكية واتساع الاتصال بالانترنت في تعبئة الجماهير لتخرج إلى الشوارع والميادين وتسقط أنظمة وحكومات تملك كل أدوات السلطة والقوة والنفوذ. وبعد قليل، انتشر تويتر ـ خاصة في منطقة الخليج ـ وبدأت جهود استغلاله لزعزعة استقرار منطقة من أكثر مناطق العالم بعدا عن اضطرابات الداخل. وسارع السياسيون، والشخصيات العامة ومن يسمون "المؤثرون"، باستخدام تويتر بدلا من الإعلام التقليدي في محاولة لمواجهة تأثير السوشيال ميديا من ناحية ولاستخدامها في توصيل رسائلهم من ناحية أخرى. وأدى ذلك إلى نتيجتين سلبيتين في وقت واحد: إضعاف الإعلام التقليدي، وزيادة فرصة الدس والشائعات والتلفيق.
صحيح، ومن الطبيعي، ألا يفوت فرص الاستفادة من التكنولوجيا واستغلال المبتكرات كأدوات لتوصيل المعلومات والرسائل والأفكار. لكن الصحيح أيضا ألا يكون ذلك هدفا في حد ذاته، والأهم ألا تنسحب إلى أرضية ما تريد مواجهته والحد من ضرره. إذ في تلك الحالة سيكسب صاحب الفعل والمبادرة ويخسر صاحب رد الفعل. ولعل ذلك ما جعل السوشيال ميديا، وغيرها من "الموصلات الإلكترونية" مؤثرة جدا وتشكل خطرا حقيقيا ليس فقط على الديموقراطية واستقرار الدول بل على الجماعات والأفراد بترويج الشائعات والتلفيق وإثارة الفتن وخلق الأزمات وحتى إذكاء الصراعات بما في ذلك عمليات الإرهاب. ومع ما يبدو من "ارتداد" في التهليل لتلك الوسائل وبدء التحذير من مخاطرها سيكون هؤلاء الذين لجأوا إليها من المسؤولين والسياسيين في وضع حرج برهانهم على وسيط يتراجع وخسارتهم للوسيط الرئيسي المتمثل في الإعلام التقليدي. ويبقى الخطر الأكبر الذي شكلته وسائل التواصل الإلكتروني تلك في العقد الأخير هو تأثيرها على الإعلام التقليدي، ليس في منطقتنا فحسب بل في العالم أجمع.
ففي الولايات المتحدة، ولأن وسائل الإعلام في أغلبها تجارية فقد سارعت للاستفادة من الوسائط التكنولوجية الجديدة وتمادى كثير منها إلى حد أن السوشيال ميديا أصبحت تحدد أولوياتها وأجنداتها في التغطيات.وأصبح الإعلام التقليدي، إلا فيما ندر، مثله مثل فيسبوك وتويتر تغلب عليه المواقف والآراء والأهواء أكثر من المعلومة الدقيقة والتحليل الرصين. والنتيجة في حالة الولايات المتحدة مثلا أن أغلب الإعلام توقع خسارة ترامب في الانتخابات، وعندما فاز لم يستطع التعامل مع الأمر فاستمر في "حالة حرب" مع الرئيس ـ تختلف كثيرا عن دور الإعلام في نقد السلطة ومراقبتها. أما في منطقتنا فحدث ولا حرج، إذ أصبح من يريد إثارة حرب يروج إشاعة عبر تويتر أو فيسبوك ويعيد تدويرها من حسابات وهمية حتى تصل إلى موقع ما يبدأ قصته بالتوطئة الشهيرة حاليا: "نقلت عدة حسابات على مواقع التواصل ....."، ثم يجد الخبر المفبرك طريقه إلى الإعلام التقليدي الذي لم تعد المصادر تهتم به وتفضل حساباتها على الانترنت.
هذا التنازل من الإعلام التقليدي لصالح "الإعلام السلبي"(ليس عكس الإيجابي، ولكن غير المنضبط بأي قواعد مهنية) يعد في رأيي أكبر ضرر للوسائط الجديدة على مهنة الإعلام ككل وعلى نشاط البشر في تجمعاتهم اجمالا. وحتى ينعدل الميزان، ويعود الإعلام المهني بأخباره المدققة وتحقيقاته الموثقة وتحليلاته المعمقة، سنظل نعاني من مخاطر السوشيال ميديا وإعلام الانترنت. ولا يكسب من كل هذا سوى الجماعات الهامشية والمتطرفة اليت لم تفلح أبدا في ترويج نفسها عبر الإعلام التقليدي.

د. أحمد مصطفى
كاتب صحفي مصري