• إلى روح ريا بنت حمود

منذ رحيلها عن عالمنا وذكراها تزورني، تلك الومضات تترك انطباعاً مريحاً في نفسي تستكين به روحي. اذكرها والسبحة بين أصابعها، سبحات غير نهائية ترددها شفتيها وبين تسبيحة وأخرى ترقد ذكرى وحكاية.
كنت أجلس بجانبها أحاول استحضار الذكريات والقصص، تعلمت من كثرة جلوسي عند قدميها الوقت المناسب لسرد الحكايات، تنطلق الذكريات منها، مندمجاً في عوالم شخوصها غارقاً في تفاصيل الزمان والمكان سارحاً في تأمل عيناها التي أطفأتها تعاقب سنينها التسعين وتراخوما منسية، لم تعرف ترف العلاج ورؤية الطبيب إلا بعد أن تخطت الخمسين، أمراض كثيرة عصفت بجسدها خلال تلك الفترة وكثيراً ما مر الموت بجانبها مذكراً إياها بسطوته وبموعده المؤجل، تلك العينان التي كانت حاضرة في يوم من الأيام تسجل المشاهد ورغم إنطفائها الأبدي ما زالت محتفظة بكل ما صورته نابضاً بالحياة في مخيلتها، استثارة بسيطة مني وسرعان ما تنطلق القصص والحكايات من بين شفتيها وتكون مهمتي الوحيدة في تلك اللحظة الإصغاء التام وطرح التساؤل في الوقت المناسب لضمان سيل الذكريات بنفس الوتيرة مع مزيد من التفاصيل.
في إحدى تلك الجلسات الكثيرة طلبت مني أن اقترب منها بقدر كاف ليصلني كف يدها الذي راح يستشعر إنحناءات وجهي مرت أصابعها على حواجبي وراحت تستشعر عيني المغمضة إلى أن وصلت لزغب لحيتي، شعرات متباعدة تعلن عن انطواء مرحلة وتحول جسدي لمرحلة أخرى، طبعت أصابعها صورتي في مخيلتها واستبدلت بها صورة الصبي الصغير التي ظلت محتفظة بصورته في مخيلتها منذ انطفاء عينيها، عملت الأصابع كماسحة ضوئية تنقل كل ما تلمسه إلى صور حية في مخيلتها. سألتها عن والدها وسرعان ما ندمت على سؤالي، ما أن سمعت التنهيدة العميقة، ألم قديم لم تمسح حدته أعوامها التسعين وقوافل الأقرباء الراحلين، توقفت أصابعها عن تحريك أحجار السبحة كأنها تعلن عن توقف الزمن عند تلك القصة وتحوله عن مساره المستقيم، بدأت الكلمات تنساب من صدرها بعد تلك التنهيدة: كان والدي محارب شجاع، من قوته كانت تهابه نفوس الرجال وفي عينيه ترى الدماء التي سالت من نصله خنجره، كنت في حينها لم أتجاوز الخامسة من عمري ولكني أذكر كل تلك الصرخات يوم حاصر منزلنا حرس الوالي طلبوا من أبي تسليم نفسه، عرف مصيره المحتوم مع حياة مثل حياته المليئة بالدم وثارات غير منسية، تيقن أنه لن يتجاوز عتبة المنزل إلا جثة وأن كان لابد من ذلك فأختار أن يموت بطريقته التي عاشها كمحارب، جهز سلاحه وبرشاقة قفز إلى أعلى السور اطلق من بندقيته طلقتين وسرعان ما سمعنا صرخة ألم من خارج البيت تبعتها أصوات الرصاص متجاوبة مع طلقاته، استمر بتغيير مكانه والقفز من موقع إلى آخر يطلق الرصاص وتنطفئ حياة مقابل كل رصاصة من بندقيته.
أذكره عندما كان يحشو بندقيته أمامي قبل أن يستقر في موقعة التالي عاضاً على شفتيه محاولاً مسح العرق المتصبب من جبينه كانت تلك اللحظة هي آخر مشهد أتذكر رؤية أبي فيه حياً حيث ما أن انتقل إلى أعلى السور وقبل أن تضغط اصبعه على الزناد سبقتها رصاصة لم تخطئ هدفها مخترقه جبينه طارت على إثرها عمامته وقبل أن تستقر على الأرض كان حرس الوالي يملؤون بيتنا ويفتشون عن مطلقي الرصاص غير آبهين بتأكيدات عمتي وأمي أنه لايوجد غيرنا في البيت. تلك الحقيقة التي ستمثل عاراً على الحراس لبقيه حياتهم كيف أنه باستطاعة رجل واحد إرداء مجموعة كبيرة منهم؟ بعد تيقنهم أنه لا يوجد غيرنا في البيت خرجوا ساحبين جثه أبي من أعلى السور، مخلفين بركة كبيرة من الدماء و سلاحه الذي احتفظ بحرارة ما سورته وعمامته المصبوغة بدمه التي ظلت حرزاً في دولاب أمي.
سالت دموعها متناسية حضوري بدأت أصابعها تحرك خرزات سبحتها ومع كل خرزة تمر تردد سبحان الله سبحان الله سبحان الله.............

عبدالعزيز الرحبي