مدخل
عندما يأتي ذكر المكان في الرصد الكتابي ، فإن السمة الغالبة هي الوصف الذي لا يكاد يتجاوز الصورة الفوتوغرافية التي تفتح العين على رصد الزمن المرتبط بها لحظة قبضها، غير أن القبض في حالة الكتابة هو اللغة، في حين أن الرصد البصري الفوتوغرافي هو الصورة، وفي المعطى العام تبقى تلك الصورة جامدة إلى حد بعيد، ولكن يحسب لها أنها جزء من ذاكرة يسهل وصفها من واقع ما بدت عليه، لتبقى جامدة في الزمن، ومستعصية على التحليل والتأويلين المرتبطين بها .
هذه الصيغة هي التي تنتشر في الكتب التي تعمد إلى توثيق المكان - إذا شئنا مقاربة المكتوب - ولكنها في الوقت ذاته لا تتجاوز هذا الجانب الشكلي السطحي ، الذي لا يقدم مساحة تأويلية يمكنها أن تكون مثيرة شهية أنماط كتابية أو تناولات فنية أخرى، وهو ما نأسف حصوله، في الوقت الذي نشعر أن المكان أكثر عمقا، بظاهراته وسلوكياته وتراكماته التاريخية، ونشعر أن النقد الثقافي قدمه على سبيل الكسل الرصدي ، تاركا إياه في مهب ريح فلكلورية لا تمنحه جمالا أكثر مما هو معروض ، ولا تهبه امتدادا يستحقه عبر الأجيال والتاريخ.
لعلي أحاول في بعض مقالات مقاربة ما يستكن وراء فكرة المكان، ابتداء من التفاصيل العامة، مرورا بما بينهما، وصولا إلى ما تقدمه تلك التفاصيل في تراكمها التاريخي ، وأبعاد بعض التحولات، ولن أدعي الإحاطة بما تحمله المؤشرات، بل سأقاربها، لعل هناك من سيكمل النواقص ويسد الثغرات .

الضيق والاتساع
يتسم المكان العماني - في صلته البنائية مع أفراده من خلال اندماجه مع تشكيلته البنائية ضيقا واتساعا - بما يتناسب مع طبيعة الدور الذي يقوم به، والتحولات التي طرأت على الخارطة الظاهرية ، التي أثرت في البناء الثقافي الجمعي، من خلال التأثر التدرجي، الذي انسحب لصالح المدينة على حساب القرى أو الأطراف .
هذا التوصيف الذي نقاربه بمصطلحي الضيق والاتساع، هو ما نظن أنه ذو علاقة بالقراءة الثقافية التي تحيل مناخ الشكل الاستاتيكي إلى حراك ديناميكي تستجليه المقاربة النقدية الثقافية، التي تتقصد الذهاب بعيدا خلف منظور المعمار الشكلي لما نراه ضيقا فاتسع، أو متسعا فضاق ، وصلته بالوظيفة الاجتماعية للمكان .
(السبلة) هي النموذج الاجتماعي العماني الأكثر شيوعا، منتقلا في أهميته من (البرزة) التي تأخذ الهندسة والوظيفة ذات الطابع الوجاهي الاجتماعي وتكوينه المؤشرات السلوكية، نسبة إلى من يتصدره ويحضره وترتيب الجالسين يمينا ويسارا من ناحية، وصلته الإخبارية ومحددات الأهمية الاجتماعية للجالسين فيه بحسب ترتيبهم من ناحية ثانية، فضلا عن الجانب التربوي السلوكي لصغار السن من (المُغَنّمين) أو القائمين على خدمة الجمع البرزوي ؛ هذه البرزة اتسعت وظيفتها مع الوقت ، لنقل إن مؤشرات التحول الهندسي نقلها من مفهوم (البرزة العامة) إلى (السبلة الخاصة)، التي صار لكل بيت وجهته وترتيبه، منتقلة السمة الوجاهية إلى البيت الشخصي، ثم تحول مع الوقت حتى صار (مجلسا) عاما للمناسبات الأكثر والفعاليات التي تطبع المكان بالخصوصية المجتمعية للسكان (أكثر من مجلس في الولاية الواحدة)، وهذا التحول مر من دون قراءة له، أي أن التوصيف العام لم يتجاوز الشرح المبسط الذي لم يتعمق في السمات المرتبطة به، قبل وبعد التحول، وعلاقته بالمراحل الزمنية التي مثلها، وبالتالي نقلها نحو أفق مختلف .
(تجمع الضحى) الذي كان يجمع كبار السن في أماكن مفتوحة غير مؤطرة،سواء كان في ظل جدار ، أو قرب مجرى فلج، أو تحت ظلال شجر، أو في عريش سعفي لأحدهم، بما فيه خصوصية المراحل العمرية التي ترتاده، والحكايات التي تدور حوله، والتفاصيل والمعلومات والفضفضات التي تأوي إليه، عابرة تخوم الذاكرة نحو زمن لاحق، أو ساردة أحداثا ما، أو مستذكرة شعرا أو حكايات شعبية كاتت حبيسة الذاكرة الفردية، أو رافعة الستار عن حكايات عشق أو حب منذ عقود، تمر عبر تلك المسارب، مصحوبة بالضحكات وعلامات السنين الآفلة، هذه المساحة تحولت الآن ، لم تعد على هذا النحو ،إذ لعبت فكرة تجمعات المقاهي ، أو التحلقات بين السيارات في فترات العصر لا الضحى، وفتحت المجال أمام حكايات شبيهة لها، لكنها مرتبطة بزمن لاحق .
هذه الصلة التي نحاول إظهارها من خلال ثيمة الضيق والاتساع ، لا نقولها من باب العبث أو مزايدة الفكرة، بل هو سلوك مجتمعي، شهد تحولات مختلفة عبر عقود، ولكن تلك التحولات لم تحظ بتحليل أو قراءة، لأننا نظن أن التحليل هو صلة الربط المعرفية والثقافية بين الأجيال ، لأننا ندعي أن ثمة فجوة وهوة معرفية بين الأجيال ، ستزداد اتساعا مع الوقت، وربما سيفقد الجيل الحالي بوصلته مع ما تعنيه المعرفة المتصلة بمجتمعه الذي مر بتحولات لم تنفذ إليها عين النقد الثقافي .

نص الصوت
لعل الصوت ، بما فيه من نهج توصيلي لساني، ومحمولات مختلفة الوظائف، وتعددات في الدلالة على الجغرافيات التي ينتمي إليها، هي واحدة من خصائص المكان التي لا يمكن التعامل معها بتغافل أو تناس، وهي محفوظة - من حيث الطريقة الصوتية - في الشعر الشعبي، ولكنها في الوقت ذاته متوافرة في الخطاب اليومي الدارج، الذي تحول - مع الوقت - إلى أسميناه اللغة البيضاء، وهي التي - بطريقة ما - تسله من خصوصيته، وتضعه أمام خيارات جديدة، ومعطيات حضارية طبيعية بحكم الانتقال نحو مراحل زمنية جديدة..
ما نضمنه هنا هو توافر الخامة الصوتية، التي هي ذات أهمية قصوى في فهم التحولات الصوتية لمخارج الحروف، والخروج على النمط الجغرافي المعهود، ولعل النقد الثقافي أولى به فهم كاريزما الصوت، باعتباره نصا تاريخيا ناقلا العديد من المكونات الثقافية للمكان، سواء على مستوى الشعر العامي أو الحكاية الشعبية أو الأمثال أو الحكم أو الملاحم الشعبية أو الألعاب ، وهو عامل مساعد على فهم الخطاب الثقافي القولي وممارساته المتعددة الأغراض، وتعدد مركباته الدلالية التي تقدم نموذجا متصلا بالمراحل العمرية والقواميس المتصلة بكل مرحلة.
نحن ندرك أن المساحة التحليلية لكل ذلك تستلزم جهدا ووقتا غير هينين، ولكن من الضروري لفت النظر إلى كونها لا تزال خارج منظومة الاهتمام الجاد من زاوية النقد الثقافي .

العبور الآفل
الذاكرات المكانية والمجتمعية، في ظل الطفرات التحولية، ستجعل من كل ما هو ذاكري في خانة العبور الآفل، ما لم يتم الالتفات إليه باعتباره جزءا من حقيقة وجودية ذات أهمية بالغة، والسبب في ذلك هو أن القرية - إذا اعتبرناها موئل المادة الخام للذاكرات المتعددة الوظائف - ستصل - ما لم ينتبه النقد الثقافي - جزءا من تاريخ يسكن القبور ولا حياة فيه، فالتحولات متسارعة،والمدنية تجتاح كل شيء، من خلال أدوات وأنماط حلولها، ومناخات اكتساحها واقع الحياة اليومية.

خارطة الرصد والروح
هناك جهود، فردية وطيبة النوايا، بيضاء السريرة، لكنهاتحتاج نوعا من الاهتمام، وتسليط الجهد البحثي النقدي، بأدواته التحليلية والتأويلية، وفتح قنوات تستفيد من الأدوات البحثية لتطوير لغة تجذر، ذات استبطان استفهامي، لفتح الأسئلة الضرورية حول هذه الروح الثقافية ، وهذا ما نطمح إليه، بأن يكون الرصد ليس مجرد اشتغال على الرصد، بل باستكناه روح المكان ومن فيه، لتتحول التفاصيل إلى حياة قابلة لإعادة التشكيل عبر تناصات إبداعية وفنية مختلفة .

عبدالله الشعيبي