متابعة ـ خميس السلطي:
"عندما تقاس حضارات وتاريخ الأمم على مر العصور والأزمنة و يشرع المؤرخون والباحثون في معرفة تاريخ وحضارة كل أمة، فإن أول ما يصادفهم في بحثهم هم فئة المفكرين والمثقفين والفنانين الذين سجلت بصماتهم وحضورهم في بلدانهم، فيجدو المخطوطات والثقافة والتاريخ والتراث وأنواع شتى من أطياف الفنون" .. بهذه المفردات ينفرد الفنان التشكيلي سيف العامري ليتحدث عن آخر أعماله الفنية المتمثلة في معرض شخصي حمل عنوان "تناغم" احتفل به مؤخرا مع مجموعة من محبي الثقافة والفنون في الجمعية العمانية للفنون التشكيلية.
يقول العامري عن معرضه الشخصي الفني التشكيلي "تناغم" : الفن في حقيقته هو لغة التخاطب والتعارف بين مختلف شعوب العالم أجمع. لا شك إن الإنسان منذ وجوده على هذه البسيطة سجل حضوره مباشرة فقام بالنحت على الحجر ورسم الرموز التعبيرية بأشكالها المختلفة كالإنسان والرماح والطيور والحيوانات والنباتات وغيرها، فتلك الموهبة الفطرية ولدت معه ولأزمنة ترافقه طوال حياته، ففي "تناغم" طرح مغاير لتجربة فنية بدأت عام 1994م وحتى الآن، وهو امتداد لمرحلتين منها الأشتغال على الأبيض والأسود، والثانية إدخال اللون.
المعرض الفني تناغم الذي ضم 48 عملا فنيا في مجال فن الجرافيك (الطباعة اليدوية)، يحمل بصمة فنية مملوءة بالإشتغال والتجريب والإحترافية التي تميزت برسائلها واسرارها وتوظيفها لمفردات تراثية عربية وإسلامية وأخرى لها أبعاد ورسائل إنسانية راقية، جاذبة لذهن المتلقي لسبر أغوارها وفك رموزها، في حالة فنية متجددة تزرع في النفس الكثير من التناغم والانسجام مع الألوان والأفكار والمعاني التي تشربتها أعمال العامري.
هنا يأتي العمل الفني الجرافيكي معتمدا على المساحات المتواصلة بين الأبيض والأسود مرورا باللون حيث التفاصيل الدقيقة كالتأثيرات والملامس المصاحبة في لوحة الحفر مما تعطي العمل الفني شكلا وبُعدا جميلا.
التجربة الفنية الحاضرة والمتجذرة في صور عميقة في المعرض الشخصي "تناغم" هي انعكاس لتجربة العامري التي تأسست في الثمانينيات فهو من الحفارين الفنيين القلائل في مجال الطباعة اليدوية فقد استطاع بكل صبر وتحمل أن يحافظ على نطاقه الفني باقتدار.
في الإطار ذاته يقول الشاعر والأديب سماء عيسى إن تجربة العامري الفنية بشكل خاص هي اقتراب من صمت الأرض وفجائعها، فهو كتشكيلي يأتي بفواجع وطنه وآلام أمته، يذهب بنا بعيدا في الصمت وفي الصراخ، أي الصراخ ما وراء الصمت، وما وراء هذا الهدوء الظاهر في تجربته يكمن في عبق العذاب هناك حيث تسكن الروح مجللة بالهزيمة تارة وبالعودة إلى جذورها المفقودة تارة أخرى، إذن على اللوحة أن تكون قاردة على تقديم جماليات مضمونها، أن تشع بهذا المضمون لذلك يقتصد سيف العامري في شحن لوحته بالرموز والكلام والمترادفات، تركيزه يتم دائما على الثيمة وبؤرها ومركزها. دون أن يبالغ في ذلك أو تأخذه العاطفة إلى ما هو أبعد من شحنات التجربة. لذلك تذهب التجربة في لغة تجريدية في تنمحي فيها الأشكال نهائيا ولا تبقى غير أطرها الهندسية كحدود لها، في التجربة الفنية لسيف العامري ثمة ملامح بعيدة لغياب أدمنته الكائنات التي استحوذت على تجربته الفنية منذ بداياتها وحتى إنجازها الأخير.
"الفنان المعالج" .. عبارة قالها البروفيسور التشكيلي النمساوي أوتو ستنجلير، وهو يصف تجربة العامري في شكلها النهائي حيث "تناغم" وآخر ما قدمه في صور فنية متداخلة فيصفه بإنه الفنان الذي يمتلك إتقان الكمال على خامة "لينو" فضلا عن الحدس الدقيق ليده فيما يتعلق بالتركيب والتباين والتي تعطي لأعماله الجرافيكية العمق والحيوية.
الفنان السوري الدكتور محمد غنوم يتحدث بكل شغف عن الأبيض والأسود في روح أعمال العامري، فيقول ترى سيف خلف كل خط ومساحة سودءا فهو لا يستطيع أن يتوارى بعيدا عن تلك المساحات والخطوط المتمثلة في لوحات بانورامية تعكس لنا الأحداث ويعيش معها ويتضح موقفه بجلاء مع آلام الأمة وإنكساراتها، فالزوايا الحادة واستقامات الخطوط وتقاطعها يحددان مكان وقوفه.
أما الفنانة التشكيلية العمانية رابحة محمود فتقترب مما قدمه العامري من أعمال فنية فتشير إلى إنه أوجد عالما ينبض بالحياة مستمدا من التراث العماني الفن الذي أحبه وخطوط قوية وكتل ومساحات متوازنة... بإختصار (أبيض وأسود يتكلم).
في حديث عن التكوين الفني للفنان سيف العامري يقول الشاعر زاهر الغافري نعلم أن مضامين أعمال العامري هي ذات طبيعة محلية تراثية، لكن في المقابل هناك الأبعاد الإنسانية التي تظهر على نحو واضح، هكذا يجترح العامري فضاءات بصرية تحمل حساسيته ونظرته للعالم والأشياء فهو يعتمد في تقنياته على خامات متعددة كالخشب والزنك مما يعطي انطباعا بالتنوع والكثافة، كما ان موضوعاته وثيماته تلقى أبعادا حميمة مع المعيش الحياتي وتوجد فضاء جمالياً حياً، متحركا بعيدا عن الجمود والسكونية.
عموما .. في معرض تناغم .. يشكل العامري حكاية أخرى للماضي حيث لسان التراث المتحدثة بروح اللون وتداخل السكون، فينقلنا من سور اللواتيا بشغف عبق الماضي في مطرح متنقلا حيش آلام الشعوب وويلات الحروب في أقصى الأرض العربية ليأتي ليذكرنا بماضي الأمة الأسلامي وحاضرها المشرق منذ مئات السنين حيث التراث الممتد يخط حقيقة المكان والزمان. وكما قال عنه الفنان العماني عبدالكريم الميمني أن الفن كما احسست به عند سيف العامري يبقى اشتغالا في ميدان التساؤل وحاجة إنسانية داخلية، فهو ليس ترفا جماليا موشح بالألوان إنما هو استئثار بالمعنى عبر طروحات شكلية تستعرضه في مساحات لونية ومعمارية بهدف الوصول بكائناته إلى بقع ضوئية تغتسل بالصمت ليكشف لنا من خلالها روعة الحياة بالرغم من صرامة هذا العالم الذي ينقلنا بين أحلامه وأوهامه. العامري في أعماله يشير إلى نور أكبر من الظلمة وإشراقة ربانية ستحل على الأمة ولو بعد حين، وسيعم معها بإذن الله وهج السعادة والخير.