.. " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، ثم جاء الوصف الثالث من أوصاف التجارة الرابحة ، وهو الإنفاق من رزق الله ، في الخفاء والعلن ، وورد الفعل كذلك ماضيا كأنهم استجابوا لأمر الله، وأنفقوا وفق ضوابط الإنفاق الشرعي، فالمال مال الله، ينفق في طاعة الله، فهم أصحاب يد عليا لأنهم ينفقون لا ينفَق عليهم، وهذا يتطلب جهدا ودأبا بحيث يوفرون المال الزائد عن حاجتهم، ويفيض لديهم ليخرجوه إلى مستحقيه سرا، وعلانية، وهو ، أي قوله تعالى:(سرّاً وعلانية) طباق إيجاب ، يبين أنهم أصحاب يد عليا ينفقون صباحا ومساء ، في الظهور والخفاء، وقلوبهم ممتلئة بالصفاء والنقاء، والإنفاق هنا من وجوه الحلال، وليس من وجوه الحرام، فهو مقيد بقوله تعالى:"مما رزقناهم"، و(مِنْ) هنا تبعيضية ، أي من بعض ما رزقناهم، أو من بعض رزقنا إياهم، والرازق هو الله ، فالرزق هو نِعْمَ الرزق ، والعطاء هو عين العطاء، سبحانه من إله ، وجل من رب،وهوكناية عن طول اليد، وكثرة الإنفاق ، وسعة العطاء ، حيث ينفق المنفق سرا وعلانية، لكثرة ما عنده، وكرم أهله، فهو يخرج منه كلَّ مخرج ، ويتصدق في كل ساعة، لكونهم كراما أسخياء، وهكذا أهل الفضل، عطاؤهم مستمر، وفضلهم كثير، ومتعدد، ومستقر.
ثم يأتي خبر (إن) لتستكمل دلالات التركيب :"يرجون تجارة لن تبور"، فهم في كل أعمالهم يبتغون رضا الرب الكريم، وكلهم رجاء ثابت لا يتزعزع في أن يقبل الله تجارتهم معه، ويُرْبِحُها لهم، فهم في رجاء مستمر، ودعاء دائم في رجاء القبول من الله، خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهم في دعائهم مجتمعون كما اجتمعوا في التلاوة، وفي إقامة الصلاة، وفي إنفاق المال،فهم يد واحدة تتعاون في الرجاء والدعاء، وجاء المفعول به منكر الفظ ليدل على شمول الدلالة ، فيتسع لكل تجارة ، وكذلك ليدل على كونها مفخمة معظمة عند الله، فالتنكير للتعظيم وبيان كمالها وجلال القبول.
وقد وُصف بصفة هي جملة فعلية منفية بـ ( لن) (تجارة لن تبور) تلك الجملة التي تفيد توكيد المنفي ، فهي تجارة من المستحيل أن تبور، وهي حتمية القبول، فلا تعرف بوارا ، ولا يشملها العار والرياء والشنار، بل الفخار كل الفخار؛ لأن الذي حَكَمَ بربحها وعدم بوارها ، هو الله رب العالمين؛ ولذلك عقب الله سبحانه :" ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" جاء الكلام توفية وإكمالا وزيادة فضل، كل ذلك لكونهم أخلصوا وتطهروا، وارتقوا في علاقتهم بربهم، فوفاهم أجورهم وزادهم زيادة تتناسب وعطاءه ، وتتماشى وكرمه الذي لا يقدره عقل بشري، ثم ختمت الآية بجملة اسمية مؤكدة ، وفيها خبران (إنه غفور شكور)، تضمنت الجملة توكيدا بـ ( إنَّ) وورودها جملة اسمية هي في الوقت نفسه لون من ألوان التوكيد، ثم جاء الخبران:(غفور، وشكور) فقد وردا صفتان مشبهتان ليدلا على أن غفرانه وشكرانه لهم مستمر سرمدي، ثابت أزلي، حتى لو قلنا: إنهما من صيغ المبالغة فهو يعني تتالي الشكر، وتتابع المغفرة، وكلاهما وارد بلفظ التنكير الذي يفيد سعة المغفرة وشمول الشكر: (ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم).
فهذا الغفران المحقق المستمر ، وهذا الشكران الحاصل المستقر المؤكد بـ ( إنَّ) جاء لهم جزاء وفاقا على ما سلف من حسن توجههم، وكريم سلوكهم، وأنهم يعرفون لمن يتوجهون بطاعاتهم، فاستحقوا تلك العاقبة، وهذا الفضل الإلهي الكبير ، والآية في مجملها امتداح لصفاء العقيدة، وثناء على صحة وسلامة الطريق؛ ومن ثم وجدنا الآيات فيها توكيدات، وفيها أفعال استمرار، وفيها صفات مشبهة، تفيد الاستمرار والثبوت ، كل ذلك تضمنته الآيات لتبين قدر هؤلاء، وسمات التجارة الرابحة، اللهم ارزقنا تجارة رابحة لا تبور، وعملا صالحا مقبولا ، ياربي ياغفور، يملأ حياتنا بالسعادة والنور، وآخرتنا بالفرحة والسرور، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

د جمال عبد العزيز أحمد كلية دار العلوم
- جامعة القاهرة جمهورية مصر العربية
[email protected]