مَن التي تعد السلالم ؟ تلقي سيرورة السرد في مسار قراءتي المنتجة: مفتاحا بصيغة فعل استباقي، ستمر به قراءتي، بلا توجس .. لكن حراثة قراءتي الثانية ستلتقط من مكمنه وتعرضه كما هو زائدا شحنته المضيئة ..
(كلّما ضربني أبي عددت ُ أصابع يديّ وقدميّ خوفا ً من أن تنقص إحداها ../ 74) ولاتكتفي الطفلة زهيّة بهذا التعداد، تبحث عن تعداد أكبر. فتصعد السلّم المؤدي إلى السطح وتنزل، وهذا الصعود/ النزول : يتضمن (إساءة تأويل) حسب سوزان سونتاج .. وبشهادة الطفلة زهيّة وهي تقوم بتفريغ المكبوت فيها (أعد ُّ الدوائر الصُفر في سجادة غرفة الجلوس. أدوس ُ عليها بنظام واحد، أعيد عدّها لأكثر من مرّة، أضع يديّ على فمي، أشعر برغبة جادّة في شتم أمّي وأبي . أكبتها في صدري ولا أسمح لها بتجاوز حدود أفكاري./ 75) ..وانشطار الذات من نتاج المعاقبة والمراقبة المبالغ بها من قبل الوالدين، فحين تتغلب زهيّة على شطرها السالب في الصفحات الأخيرة من الرواية يقترح زوجها عليها أن تتذكر الاشياء الحلوة في والديها.. فتعاودتها الحالة المرضية (صعدتُ الدرج وما إن وصلت إلى الأعلى، حتى رجعتُ ونزلت. صعدتُ وعدتُ ونزلت . كررت ذلك مرة ومرتين وعشر مرّات . ها أنا أكرر أفعالي، أكرر عد السلالم كأني أخشى أن تنقص واحدة، كأني أخشى أن أخطىء العدّ، كأنيّ أركض مع السيدة المنتحرة، لكنّي أنا السيدة المنتحرة ../251)
هذا المكبوت / المقموع سيتربى في تلك البئر السرية في نفس المراهقة زهيّة وسيثأر منتهكا المحرّم الاجتماعي : عائليا ... خارج العائلة ..وبشهادتها (في مراهقتي، أنفض رأسي،أستحي أن أقول أفكاري لأحد،... في الشارع لايكف رأسي عن وضع تصوّرات لأشكال أجساد المارة أغمض ُ عينيّ، وأركض لأتجاوز أفكاري الغبية ..)..هذه العين الخارقة لا تخلو من محمول قوة خفية لامرئية لكنها محسوسة في البعد الجواني الذي ينتهك الحجب ..وهذه العين كأنها رد فعل مناصر للفعل الملجوم في شخصية زهيّة ..هذه العين الغيبية ستكون لها مشروطيتها ، على شخصية زهيّة المشطورة إلى شطرين ، وستمتد شخصية فانيش جسرا بين شطريّ زهيّة ، وستبدأ شخصية فانيش على تدريب زهيّة بطريقة لاتعيها زهيّة إلاّ بعد انتهاء العلاج السريري الملّون بالفرشاة.
فانيش الخادمة – بسبب الفقر، هي فانيش المثقفة الحالمة بإكمال دراستها الجامعية باللغة الانجليزية، لكن زهيّة لاترى إلاّ الجانب المظلم من القمر/ القهر، فحين تهبها فانيش درساً بلجم الاحلام ووأدها داخل النفس وهي تهامس مخدومتها
(الأحلام التي نحكيها تتحقق سيدتي، أكتميها في صدرك، تحملي أذاها لوحدك، لاتقوليها لأحد / 226) سيكون رد فعل زهيّة ..(يا ااه لماذا أنا هنا الآن؟ أجلس لأتلقّى النصائح من خادمتي؟ أنصت ُ إلى حكمتها العظيمة ؟ ألا يبدو ذلك سببا كافياً للأنتحار؟..) هنا تتساءل قراءتي ضمن : الممكن / المحتمل : ألا يمكن كابوس المرأة المنتحرة : تلفيقا سرديا من إنتاج فانيش بطاقاتها الباراسيكلوجية، سردته إلى مخدومها زهيّة ليتساكن فيها ويخلصها من زهيّة بنسختها المتعالية والمصابة بفوبيا التعقيم وبكل ما أفرغته عصا والدها على جسدها في طفولتها ..؟! زهيّة الزوجة والأم في شبه قطيعة من أهلها والتراسل بين الطرفين يتجسد غيابا متبادلا (لم ينتبهوا لغيابي عنه، ولم انتبه لغيابهم عني .أمي على بعد كيلومترات قليلة منّي ولكنّي لا أشعر بحنين إليها../233) وهي تريد تصنيع ابنتها كنسخة طبق الأصل منها وبالقوة (أمّي أرادت دوماً أن أسرّح شعري مثلها وأن ألبس مثلها وأتكلم مثلها)..وهنا أنقلبت خريطة البيت وبشهادة زهيّة عن خادمتها فانيش (أدخلتني إلى مربعها وأغلقت علي الأبواب والأسوار وتركت الكابوس حارسّا جاثما على صدري ../ 226) ..

من هنا ستتغير زهيّة ستكسر روزنامتها الثابتة، ها هي تتصل بصديقتها طرفة وتسبقها إلى مكان لقائها (خرجت ُ من دون أن أضع مكياجا أو حمرة.) لكنها ستتقنع..(أشعرتني النظّارة السوداء التي غطت جزءا كبيرا من وجهي ببعض الراحة والأمان ../235) وقبل الدخول إلى جوهرة الشاطىء تنتبه إلى الهامش الاجتماعي المسحوق من أجل الخبز(لطالما كنت ُولا أنتبه إلى وجودهم ولا إلى كلماتهم. أعبر كأنهم ليس هنا، كأن لاصوت لهم ولا كلمات ولا رائحة..).. وستعترف لعامر وهي في نسختها البشرية المصححة (248- 249) على سعة هاتين الصفحتين : كيف كانت تستمتع بتوبيخ نفسها (بتذكّر كل أخطائي وتكرارها على شاشة الذاكرة)(كرهت ُ كل قريباتي اللواتي قبّلنني وتمنيتُ قتلهن)
بعد فترة قصيرة من لقائهما تعتذر زهيّة لصديقتها طرفة وتسرع إلى بيتها.. تسرع بإعداد وجبة غداء يحبها زوجها عامر ...وفي صعودها السلّم تنتبه إلى لوحة المرأة المشنوقة .. هنا نتلمس المتغيرات الايجابية الجديدة في شخصية زهيّة وستدرجها قراءتي المنتجة بالتنجيم :
*ألقيت نظرة على المرأة المشنوقة السابحة في ذكريات لانهائية
*حاولت أن أجد شبها بيني وبينها لكنها لاتشبهني
*أعطيتها ظهري ومضيت.
*لكن شيئا دفعني للنظرا إليها مجددا
في النقلة التالية سيتم تحريك الساكن الفني، عبر مخيال زهيّة ، ويتحول التوصيف من المرأة المنتحرة
إلى المرأة المشنوقة، وإذاكان التوصيف الأول فعل أرادي ذاتي. فإن الفعل الثاني يحمل الذاتي واللاذاتي ..
*خفق قلبي رأيتها ترفع يدها
*وتزيح شعرها الطويل عن وجهها
*رمقتني بتلك النظرة التي أعرفها جيدا
*الظرة الجادة القاسية الممتلئة بالآوامر والتنبيهات والخوف مني وعليّ
*تركتها خلفي
*وركضت ُ إلى غرفتي
*كيف خرج وجه أمي من تحت الشعر الكثيف
*كيف اصطادني بشباك نظرتها التي تعبتُ وأنا أركض بعيدا عنها
*لو مكثتُ أمامها أكثر
*لأمطرتني بغضبها الأبدي من شيء لا أعرفه ولم أكتشفه بعد ./ 244

فانيش المرأة الثانية ساعدت زهيّة بإنتاج نسخة منقّحة ومزيدة لشخصية، أما المرأة فكانت الأبلة صفاء التي شجعتها على الرسم وعلى السفر إلى مصر لدراسة الفن التشكيلي وجعلتها تدرك الأهمية النفسية للفرشاة وبشهادة زهيّة نفسها ..(قالت لي جملة واحدة ظلت تنمو في قلبي وعقلي إلى اليوم (مفيش حاجة يازهيّة أدّ الرسم بتخلي الواحد مننا مرتاح../ 73).. حيث سيتحول الرسم سريرا للتشافي من الآبار المهجورة في أغوار نفس زهيّة . وسينوب عن أبلة صفاء ..وبمساعدة الغربة ستشعرب زهيّة (الغربة كالرسم تماما تخفف من ايقاع حياتي الصاخب بالقوانين ../78)..فالرسم سيحوّل الجواني إلى براني في الهواء الطلق، وهكذا يتعرض الجواني للهواء الطلق والشمس التي تساعد على تجفيفه / تفتيته ..(رسمتُ وتخلصت من التفكير بأجسادهم ..رسمت السلالم ودوائر السجّاد، فتوقفت عن عدها ./ 78)..حين ينتقل حلم امرأة السلّم من منام فانيش إلى منام زهيّة ، ستحاول الأخيرة تطويقه بسرد الفرشاة مستعينة بفانيش بخصوص التوصيفات وستكون امرأة الحلم ضمن جدارية غرفة آية ويوسف ..(أتناول الفرشاة ...122-123) فهي أعني زهيّة تريد علاجا تشكيليا للتخلص منها ( لاأعرف كيف أتخلّص منها سوى برسمها / 145) وحين يعود زوجها عامر من السفر، ويشاهد رسمتها للمرأة العملاقة المخيفة . تبرر ذلك قائلة( عشان أمنع جيتها بيتنا../197) ..فالرسم يطوق امرأة ويعرضها في الهواء ويمتح أثرها من العقل الباطن ..فثمة تراسل مرآوي بين امرأة الحلم وبين زهيّة وبشهادتها (ربما كانت تحمل مايشبه غضبي وتعبي وأسئلتي ../148) ..وهاهي امرأة الحلم في حلم جديد تقودها (تحكم قبضتها يدها اليمنى على يدي اليسرى وتجبرني على التقدم .... /149)..هاهي امرأة المحلوم بها نجرت من تكرارات الحلم سلّما وجعلت زهيّة تشاركها الصعود عليه : درجة ً ..درجة ً = حلماً.. حلماً ..وعلى الدرجة الأخيرة وبتوقيت أكتمال الترآسل المرآوي وبشهادة زهيّة نفسها (وقفت المرأة المنتحرة مجدداً أمام اللوحة التي رسمتها. قامتها أقصر من قامة المرأة المرسومة وأنا خلفهما أقصر منها معا ..) لنتأمل هذا الأصطفاف التشكيلي : الفن هو الأطول قامة في الحياة، يلي ذلك الحلم ..يليهما : الإنسان ..لكن لولا الإنسان ..لولا هذا الوعاء البشري العظيم المتجاوز نفسه بالفعل (الإنسان هو التجاوز/ كارل ماركس) وليس بالقوة (الإنسان يجب أن يتجاوز/ نيتشة).. لولاه لما انبجست مياه الاحلام وقوى الإبداع ..بعد هذه اللحظة سينفرد الفن بتعاليه النصي ويؤطر الفراغ : الحلم/ القرين والواقع .. وبشهادة زهيّة : (أنا وهي معلقتّان في فراغ عظيم . لاأرض تحتنا ولا سماء فوقنا . لاشيء أتشبث فيه للنجاة منها ).. وحين تقرر امرأة الكابوس المكاشفة وجها وجها .. ستكون زهيّة في منزلة بين منزلتين وستعمل قراءتي على تجزئة التردد وتأطيره في مرقمة :
1- سرت الكهرباء في جسدي ..
2- فارتجفت ُ
3- تعوذت من الشيطان .
4- أريد أن أراها ولا أريد.
5- أريد أن أعرفها ولا أريد
6- أريد أن أفتح عينيّ عليها ولا أريد
7- أريد أن أصحو من كابوسي هذا ولا أريد .
ثم تحدث النقلة / الصدمة الكبرى
1- تجمدت الدماء في عروقي.
2- كان لها عيناي الغاضبتان
3- شفتاي المزمومتان
4- حاجباي العابسان
5- كان لها وجهي المتجهم.
6- كنت ُ أنا في قمة قبحي.
7- استفقتُ على صوت صراخي يخرج من بئر عميق في الروح.
8- أضأت ُ الغرفة
9- نظرت ُ إلى وجهي في المرآة
10- ياااه أنا أبشع مما توقّعت
11- لطمت ُ وجهي إلى أن توّجعت
12- ذرفت ُ الدمع
13- ثم علا نحيبي كمن مات له عزيز له

(*)(التي تعد السلالم) رواية زاخرة بجهويات صالحة للكتابات النقدية، فهي تمتلك تراتبيات نصية وشحنات تشويق لاتخف حرارتها ..

مقداد مسعود
كاتب وشاعر عراقي